title3

 banner3333

 

(6) مشكلتا السياسة الداخلية والخارجية

مشكلتا السياسة الداخلية والخارجية

قد قرّرت شريعة الإسلام مسائل السياسة أكمل تقرير، وهدت إلى جميع ما ينبغي سلوكه مع المسلمين ومع غيرهم بأحسن نظام وأعدله، وجمعت فيه بين الرحمة والقوة، وبين اللين والشفقة، والرحمة بالخلق، مهما أمكنت الأحوال. فإذا تعذّر ذلك استعملت القوة بحكمة وعدل، لا بظلم وعنف؛ قال تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلًا} [سورة النحل: 90 - 91] فأمر الله بالعدل مع كل أحد، وبالإحسان والرحمة لكل أحد، وخصوصًا القرابة ومن لهم حقّ على الإنسان . ونهى عن الفحشاء والبغي على الخلق، في دمائهم وأموالهم وأعراضهم وحقوقهم.

وأمر بوفاء العهود والمحافظة عليها، وحذّر من نقضها. وهذه الأمور المأمور بها والمنهي عنها، منها ما هو واضح جلي عينت على المسلمين سلوكها، ولم تجعل لهم في ذلك خيرة ولا معارضة. وهي التي نصّ الشارع على أعيانها ولم يكل بيانها إلى أحد. فهذا النوع يدخل في قوله تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالًا مبينًا} [سورة الأحزاب: 36]، {فلا وربّك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلّموا تسليمًا} [سورة النساء: 65]، {فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول} [سورة النساء: 59] {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} [ سورة الشورى: 10].

وقد تتبع هذا النوع العظيم فوجد - ولله الحمد - مطابقًا للعدل والحكمة، موافقًا للمصالح، دافعًا للمفاسد.

والقسم الثاني: الأمور المشتبهة في أصلها، أو في تطبيقها على الواقع، وإدخال الأمور الواقعة فيها نفيًا وإثباتًا، وطلبًا وهربًا، فهذا قد أُمروا أن يتشاوروا فيه، وينظروا فيه من جميع نواحيه، ويتأمّلوا ما يتوقّف عليه من الشروط والقواعد، وما يترتّب عليه من الغايات والمقاصد، ومقابلة المصالح والمضار وترجيح الأصلح منها. قال تعالى: {وشاورهم في الأمر} [سورة آل عمران: 159]، وقال تعالى عن جميع المؤمنين: {وأمرهم شورى بينهم} [سورة الشورى: 38]. وهذا النوع قد وسّع الشارع فيه الأمر، بعدما قرّر القواعد والأسس الموافقة لكل زمان ومكان، مهما تغيّرت الأحوال وتطوّرت الأمور؛ فالقواعد الشرعية إذا سلكت في كليات الأمور وجزئياتها، صلحت بها الأمور، واستقامت الدنيا والدين، وصلحت أمور العباد، واندفعت الشرور والمضار عنهم. ولكنها تحتاج إلى عقد مجالس تجمع الرجال العقلاء الناصحين، أولي العقول الرزينة والأحلام الواسعة والرأي المصيب والنظر الواسع، وتبحث فيها القضايا الداخلية واحدة بعد واحدة، بحثًا يشمل نواحي القضية، وتصوّرها كما ينبغي، وتصوّر ما تتوقّف عليه وتتمّ به إن كانت مقصودا تحصيلها، وتصور ما يترتّب عليها من الفوائد والمصالح الكلية والجزئية، وبحث أحسن طريق لتحصيلها وأسهله، وبحث القضايا الضارة التي يطلب دفعها، بتتبّع أسبابها وينابيعها التي تسربت منها، وحسمها بحسب الإمكان، ثمّ السعي في إزالتها بالكلية إن أمكن، وإلا بتخفيفها وتلطيفها؛ قال تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [سورة التغابن: 16] وقال (صلى الله عليه وسلم): (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم).

ومن أعظم الأصول الشرعية حثّ المسلمين على القيام بدينهم، والقيام بحقوق الله وعبوديته، والقيام بحقوق العباد، والحثّ على الاتّفاق واجتماع الكلمة، والسعي في أسباب الألفة والمحبة، وإزالة الأحقاد والضغائن؛ قال تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} [سورة الحجرات: 10]، {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا} [سورة آل عمران: 103]، {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين} [سورة الأنفال: 1]، {ولا تكونوا كالذين تفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات} [سورة آل عمران: 105]، {واعتصموا بحبل الله جميعًا} [سورة آل عمران: 103]، إلى غير ذلك من النصوص الدالة على هذا الأصل العظيم، الذي به تستقيم الأحوال، ويرتقي به المسلمون إلى أعلى الكمال. وقال تعالى: {وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط} [سورة الأنفال: 46 - 47] فأمر بطاعته وطاعة رسوله . ويدخل في ذلك جميع الدين. ونهى عن التنازع الذي يوجب تفرق القلوب، وحدوث العداوات المحللة للمعنويات. وأمر بكثرة ذكره المعين على كلّ أمر من الأمور، وبالصبر الذي يتوقف عليه كل أمر. وأمر بالإخلاص والصدق، ونهى عما يضاد ذلك من الرياء والفخر والبطر والمقاصد السيئة وإرادة إضلال الخلق. وقال تعالى: {وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم} [سورة الأنفال: 60]، فأمر بإعداد المستطاع من القوة، فيشمل القوة السياسية والعقلية، والصناعات، وإعداد الأسلحة، وجميع ما يتقوّى به على الأعداء، وما به يرهبونهم. وهذا يدخل فيه جميع ما حدث ويحدث من النظم الحربية، والفنون العسكرية، والأسلحة المتنوعة، والحصون والوقايات من شرور الأعداء؛ قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم} [سورة النساء: 71]، ولكلّ وقت ومكان من هذه الأمور ما يناسب ذلك. فانظر كيف كانت هذه التعاليم الشرعية هي السبب الوحيد والطريقة المثلى لسلوك أقوى السياسات الداخلية والخارجية، وأن الكمال والصلاح بالاهتداء بها، والاسترشاد بأصولها وفروعها. وأن النقص الحاصل والنقص المتوقّع إنما يكون بإهمالها وعدم العناية بها.

ومن السياسة الشرعية أن الله أرشد العباد إلى قيام مصالحهم الكلية بأن يتولّى كل نوع منها طائفة تتصدّى للإحاطة علمًا بحقيقتها وما تتوقّف عليه، وما به تتمّ وتكمل، وتبذل جهدها في ترقيتها بحسب الإمكان؛ قال تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} [سورة آل عمران: 104]، وقال تعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} [سورة التوبة: 122].

ولا شكّ أن القيام بالمصالح العامة على هذا الوجه الذي أرشد الله إليه هو السبب الوحيد للكمال الديني والدنيوي، كما هو مشاهد يعرفه كل أحد. ومن ذلك قوله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} [سورة النحل: 125]. وهذا يشمل دعوة المسلمين الذين حصل منهم إخلال ببعض أمور الدين، ويشمل دعوة الكفار: الأوّلون يدعون إلى تكميل دينهم، والآخرون يدعون إلى الدخول في دين الإسلام الذي به صلاح البشر. وتكون هذه الدعوة بالحكمة، التي هي سلوك أقرب طريق وأنجح وسيلة يحصل بها تحصيل الخير أو تكميله، وإزالة الشر أو تقليله، بحسب الزمان والمكان، وبحسب الأشخاص والأحوال والتطوّرات. وكذلك بالموعظة الحسنة، والموعظة بيان  وتوضيح المنافع والمضار، مع ذكر ما يترتب على المنافع من الثمرات النافعة عاجلًا وآجلًا، وما يقترن بالمضار من الشرور عاجلًا وآجلًا. ووصفها الله بأنها موعظة حسنة لأنها في نفسها حسنة وطريقها كذلك. وذلك بالرفق واللين والحلم والصبر وتصريف أساليب الدعوة. وكذلك إذا احتيج في الدعوة إلى مجادلة لإقناع المدعو، فلتكن المجادلة بالتي هي أحسن، يدعى المجادل إلى الحقّ، ويبين محاسن الحق ومضار ضدّه، ويجاب عما يعترض به الخصم من الشبهات. كل ذلك بكلام لطيف، وأدب حسن، لا بعنف وغلظة، أو مخاشنة أو مشاتمة، فإن ضرر ذلك عظيم؛ قال تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم} [سورة آل عمران: 159]

ولنقتصر على هذا الأنموذج، فإنه يحصل به المقصود. والله أعلم. وصلى الله على محمد وسلم.

حرر في 5 ربيع الآخر سنة 1375


 

الدين الصحيح يحلّ جميع المشاكل، ضمن مجموع ابن سعدي (2/ 631 – 636).

للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله.