title3

 banner3333

 

(5) مسألة الصحة والمرض

مسألة الصحة والمرض

فإن الشريعة الإسلامية جاءت بأكمل الأمور فيها: أمرت بكل ما يحفظ الصحة وينميها، وما يدفع الأمراض أو يخفّفها بحسب الإمكان. وفصّل في هذا الموضوع تفاصيل نافعة، تدور على حفظ الصحة وتنميتها، والحمية من جميع المؤذيات والأمور الضارة، وعلى السعي في التحرز من الأمراض قبل نزولها، ومداواتها بعد نزولها.

وأمرت مع ذلك بالتوكل على الله، والاعتماد عليه، والعلم بأنه تعالى هو المعطي للنعم، الدافع للنقم؛ بلطفه وقدرته ورحمته، وبما جعله من الأسباب الكثيرة التي علمها الله العب، وأمرهم بسلوكها.

وأمر أيضًا بمقاومة الأمراض بأمور أخرى غير الأدوية الحسية، أمر بالصبر لله على المكاره إيمانا به، واحتسابًا لثوابه، فإنه بذلك تخفّ مشقّة الأمراض بما يحصل للصابر المحتسب من الإيمان واليقين والثواب العاجل والآجل.

كذلك أمر بقوة الاعتماد على الله عند نزول المصائب والمكار، وأن لا يخضع الإنسان ويضعف قلبه وإرادته وتستولي عليه الخيالات التي هي أمراض فتّاكة. فكم من مرض يسير بسيط عظمت وطأته بسبب ضعف القلب وخوره وانخداعه بالأوهام والخيالات، وكم من مرض عظيم هانت مشقته وسهلت وطأته حين اعتمد القلب على الله، وقوي إيمانه وتوكله، وزال الخوف منه. وهذا أمر مشاهد محسوس.

فالدين الإسلامي أمر بالأمرين في وقت واحد: أمر بفعل الأسباب النافعة، وبالاعتماد على الله في نفعها، وتحصيل المنافع ودفع المضار، بحسب الاستطاعة. وكذلك النعم، والمسار، والمكاره، والمصائب، جاءت شريعة الإسلام فيها بأكمل الحالات. أمر الله ورسوله بتلقي النعم بالافتقار إلى الله فيها، والاعتراف التام بفضل الله بتقديرها وتيسيرها، وشكر المنعم بها، شكرًا متتابعًا، وتصريفها فيما كانت لأجله، والاستعانة بها على عبادة الله، وأن لا يكون العبد عندها أشرًا، ولا بطرًا، بل متواضعًا شاكرًا. وأمر العبد أن يغتنم الفرصة النافعة في النعم، فيربح عندها أرباحا عاجلة وآجلة. يغتنم فرصة العافية والصحة والقوة والجدة والجاه والأولاد، فلا يغبن فيها بحيث تكون نعما حاضرة مؤقتة، بل يستخرج منها نعما باقية، وخيرًا متسلسلًا، ونفعًا مستمرًا. 

وفي الحديث: (اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك). فمتى عرف العبد المقصود من النعم، وأنها مجعولة وسائل إلى خيرات الآخرة، اجتمع له الأمران: التمتّع بها عاجلًا، والاستفادة من خيراتها آجلًا؛ فيؤدي واجبها ومستحبها، وبذلك تكون نعما حقيقية دينية ودنيوية.

عكس حالة المنحرفين عما جاءت به الشريعة، الذين يتمتّعون بها كما تتمتع الأنعام السائمة، ويتناولونها بمقتضى الشهوة البهيمية. فالنعم في حقّهم سريعة الزوال وشيكة الانفصال، لا تعقبهم إلا الحسرة والندامة. والأولون يشاركونهم في التمتّع العاجل، وربما زادوا عليهم براحة القلب، وطمأنينة النفس، والسلامة من الهلع والجشع.

وأما المصائب، فلّما كانت لا بدّ منها للخلق، ولا أحد يسلم منها، أعدّ الشارع الحكيم لها عدّتها، وأرشد عباده إلى الصبر والتسليم، والاحتساب لثوابها، وأن لا يتلقّاها العبد بجزع وخور وضعف نفس، بل بقوّة وتوكّل على الله وإيمان صادق. وبذلك تخف وطأتها، وتهون مشقتها، ويحصل من الثواب وزيادة الإيمان أضعاف أضعاف ما حصل من المصيبة؛ قال تعالى: {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} [سورة البقرة: 155 - 157]، وقال تعالى: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} [ سورة الزمر: 10]، { إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون} [ سورة النساء: 104]،  فانظر هذه الإرشادات الحكيمة في هداية الشريعة إلى تلقي النعم والمسار والمصائب والمضار، كيف ترى القلوب فيها مطمئنة، والحياة طيبة، والخير حاصلا ومأمولًا، والربح مستمرًّا. (عجبا لأمر المؤمن: إنّ أمره كله خير؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن).

فأين هذه الحالة الجليلة العالية من حالة المنحرفين عن الدين، الذين إذا أصابتهم النعم بطروا ومرحوا مرح البهائم، وتجبّروا على عباد الله، وطغوا وبغوا، وإذا أصابتهم المكاره جزعوا وضعفوا، وربما أدت بهم الحال إلى الانتحار، لعدم الصبر وللهلع والجزع الذي لا يحتمل. نسأل الله العافية.


 

الدين الصحيح يحلّ جميع المشاكل، ضمن مجموع ابن سعدي (2/ 627 – 630).

للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله.