مشكلة الغنى والفقر
تنوّعت مقاصد الخلق وسياساتهم في مسألة الغنى والفقر، بحسب أغراضهم النفسية، لا بحسب اتّباعهم للحقّ ونظرهم للمصالح العامة الكلية. وكلّهم أخطئوا الطريق النافع، حيث لم يتقيّدوا بهدايات الدين الإسلامي؛ وتنوّعت بهم الأفكار، وعملوا على مقتضى ذلك، فحصل بذلك شر مستطير، ووقعت فتن كبرى بين من يدّعي نصرة الفقر والفقراء والعمال، وبين من يتمسّك التمسّك المزري بالثروات والأموال. ولهم في ذلك كلام طويل كله خطأ وضلال. وهدى الله المؤمنين إلى صراط مستقيم في جميع أمورهم عامة، وفي هذه المسألة خاصة. جاء الشرع ولله الحمد بصلاح الأغنياء والفقراء بحسب الإمكان. لما حكم الله تعالى قضاءً وقدرًا أن الخلق درجات، فمنهم الغني ومنهم الفقير، ومنهم الشريف ومنهم الحقير، لحكم عظيمة، وأسرار يضيق التعبير عن وصفها. فربط بعضهم ببعض بالروابط الوثيقة، وسخّر بعضهم لبعض، وتبادلت بينهم المصالح العادلة، واحتاج بعضهم إلى بعض.
شرع الشارع الحكيم أولًا: أن يكونوا إخوانًا، وأن لا يستغلّ بعضهم بعضًا استغلالًا شخصيًا. بل أرشد كلا منهم أن يقوم نحو الآخر بواجباته الشرعية، التي يتم بها الالتئام وتقوم بها الحياة. أمر الجميع أن يتوجّهوا بأجمعهم إلى المصالح العامة الكلية التي تنفع الطرفين، كالعبادات البدنية، والمشاريع الخيرية، وجهاد الأعداء ومقاومتهم، ودفع عدوانهم بكل وسيلة، كل منهم بحسب وسعه وقدرته. هذا ببدنه وماله، وهذا ببدنه، وهذا بماله، وهذا بجاهه وتوجيهه، وهذا بتعلمه وتعليمه. لأن الغاية واحدة، والمصالح مشتركة، والغاية شريفة، والوسائل إليها شريفة.
ثمّ أوجب في أموال الأغنياء فرضا الزكاة، بحسب ما جاء في تفاصيلها الشرعية. وجعل مصرفها دفع حاجات المحتاج، وحصول المصالح الدينية المقيمة لأمور الدنيا والدين، وحثّ على الإحسان في كل وقت وفي كل مناسبة، وأوجب دفع ضرورة المضطرين، وإطعام الجائعين، وكسوة العارين، ودفع الضرورات عن المضطرين. وكذلك أوجب النفقات الخاصة للأهل والأولاد، وما يتّصل بهم، والقيام بواجبات المعاملات كلها الواقعة بين الناس.
وأمرهم مع ذلك أن لا يتّكلوا في كسب الدنيا على حولهم وقوتهم، ولا ينظروا نظر استقرار وطمأنينة إلى ما عندهم. بل يكون نظرهم على الدوام إلى الله وإلى فضله، وتيسيره والاستعانة به. وأن يشكروه على ما تفضّل به عليهم وميزهم به من الغنى والثروة.
وأوجب عليهم أن يقفوا عند الحدود، فلا ينغمسوا في الترف والإسراف انغماسًا يضرّ بأخلاقهم وأموالهم وجميع أحوالهم، بل يكونون كما قال الله تعالى: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوامًا} [سورة الفرقان: 67] وأمرهم مع ذلك أن يكون طلبهم للغنى والدنيا طلبا شريفا نزيها، فلا يتلوّثون بالمكاسب الخبيثة التي هي ما بين ربا أو قمار أو غرر أو غش أو خداع، بل يتقيّدون بقيود الشرع العادلة في معاملاتهم، كما تقيّدوا بذلك في عباداتهم. وأمرهم أن ينظروا إلى الفقراء نظر الرحمة والإحسان، لا نظر القسوة والغلظة والأثرة والبطر والأشر والكبر. ولهذه الإرشادات الحكيمة تكون الثروة الدينية في غاية الشرف وكمال الاعتبار، ويكون الغنى على هذا الوجه وصفا محمودًا، ونعت كمال ورفعة وعلو، لأن الشرع هذبه وصفاه، فحث على التباعد عن رذائله، ورغب في اكتساب فضائله.
وأما ما صنعه الدين الإسلامي مع الفقراء، فقد أمرهم وكلّ من لم يدرك محبوباته النفسية أن يصبروا ويرضوا بقضائه وتدبيره، وأن يعترفوا أن الله حكيم له في ذلك حكم، وفيه مصالح متنوّعة. {وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم وعسى أن تحبّوا شيئًا وهو شرّ لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [سورة البقرة: 216] فنظرهم هذا يذهب الحزن الذي يقع في القلوب فيحدث العجز والكسل. ثم أمرهم أن لا ينظروا في دفع فقرهم وحاجاتهم إلى المخلوقين، ولا يسألوهم إلا حيث لا مندوحة عن السؤال عند الضرورة إلى ذلك، وأن يطلبوا دفع فقرهم من الله وحده لا شريك له، بما جعله من الأسباب الدافعة للفقر الجالبة للغنى. وهي الأعمال والأسباب المتنوّعة، كل واحد يشتغل بالسبب الذي يناسبه، ويليق بحاله، فيستفيد بذلك تحرّره من رقّ المخلوقين وتمرنه على القوة والنشاط، ومحاربة الكسل والفتور. ومع ذلك لا يقع في قلوبهم حسد للأغنياء على ما آتاهم الله من فضله.
{ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليمًا} [سورة النساء: 32]، وأمرهم أن ينصحوا في أعمالهم ومعاملاتهم وصناعاتهم، وأن لا يتعجلوا الرزق بالانغماس في المكاسب الدنيئة التي تذهب الدين والدنيا.
وأمرهم بأمرين يعينانهم على مشقّة الفقر: الاقتصاد في تدبير المعاش، والاقتناع برزق الله؛ فالرزق القليل مع الاقتصاد الحكيم يكون كثيرُا، والقناعة كنز لا ينفد وغنى بلا مال. فكم من فقير وفق للاقتصاد والقناعة لا يغبط الأغنياء المترفين، ولا يتبرم بقلة ما عنده من الرزق اليسير. فمتى اهتدى أهل الفقر بإرشادات الدين من الصبر والتعلق بالله، والتحرّر من رق المخلوقين، والجدّ والاجتهاد في الأعمال الشريفة النافعة، والاقتناع بفضل الله، هانت عليهم وطأة الفقر وعناؤه.
ومع ذلك فهم لا يزالون يسعون في تحصيل الغنى ويرجون ربهم وينتظرون وعده، ويتّقون الله، فإنه {ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه} [سورة الطلاق: 2 - 3] فهذه التعاليم الدينية والإرشادات من الله ورسوله لأهل الغنى والفقر تجلب لهم الخيرات، وتمنعهم من الشرور والمضرات، وتنتج لهم أجمل الثمرات العاجلة والآجلة.
فهذا الحلّ الوحيد من الرب المجيد لمشكلة الغنى والفقر، وما سوى ذلك فعناء وشقاء، وضرر وهلاك. والله الموفق.
الدين الصحيح يحلّ جميع المشاكل، ضمن مجموع ابن سعدي (2/ 624 – 627).
للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله.