title3

 banner3333

 

(3) مشكلة العلم

مشكلة العلم

لقد غلط كثير من الناس في مسمّى العلم الصحيح الذي ينبغي ويتعيّن طلبه والسعي إليه على قولين متطرّفين: أحدهما أخطر من الآخر.

فالأوّل: قول من قصر العلم على بعض مسمّى العلم الشرعي، المتعلّق بإصلاح العقائد والأخلاق والعبادات، دون ما دلّ عليه الكتاب والسنة: من أن العلم يشمل علوم الشرع ووسائلها، وعلوم الكون. وهذا قول طائفة ممن لم تتبصّر بالشريعة تبصّرًا صحيحًا، ولكنهم الآن بدئوا يتحلّلون من هذا الإطلاق، لما رأوا من المصالح العظيمة في علوم الكون، وحين تنبّه كثير منهم لدلالات نصوص الدين عليه.

 والقول الثاني: قول من قصّر العلم على العلوم العصرية، التي هي بعض علوم الكون. وهذا القول إنما نشأ من انحرافهم عن الدين وعلومه وأخلاقه. وهذا غلط عظيم حيث جعلوا الوسائل هي المقاصد، وحيث نفوا من العلوم الصحيحة والحقائق النافعة ما لا تنسب إليه العلوم العصرية بوجه من الوجوه، غرّهم ما ترتّب عليها من الصناعات والمخترعات. وهؤلاء هم المرادون بقوله تعالى: {فلما جاءتهم رسلهم بالبيّنات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} [سورة فصلت: 83] فهم فرحوا بعلومهم واستكبروا بها واحتقروا علوم الرسل، حتى نزل بهم ما كانوا به يستهزئون من الحق، ونزل بهم العذاب الذي وعد به من كذب الرسل، عذّبوا في الدنيا بالختم على قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم وعموا عن الحق. {ولعذاب الآخرة أشد وأبقى} [سورة طه: 127] {وما كان لهم من الله من واق} [سورة غافر: 21] أما مدلول العلم النافع ومسماه الذي دل عليه الكتاب والسنة: فهو كل علم أوصل إلى المطالب العالية , وأثمر الأمور النافعة , لا فرق بين ما تعلق بالدنيا أو بالآخرة، فكل ما هدى إلى السبيل ورقى العقائد والأخلاق والأعمال، فهو من العلم. وقسّم العلوم إلى قسمين: مقاصد، ووسائل توصل إليها وتعين عليها.

فالمقاصد: هي العلوم المصلحة للأديان.

والوسائل: ما أعان عليها من علوم العربية بأنواعها، ومن علوم الكون التي ثمرتها معرفة الله ومعرفة وحدانيته وكماله، ومعرفة صدق رسله.

وثمرتها: الاستعانة بها على عبادة الله وشكره، وعلى قيام الدين. فإنه تعالى أخبر أنه سخر لنا هذا الكون، وأمرنا أن نتفكر فيه ونستخرج منافعه الدينية والدنيوية. والأمر بالشيء أمر به وأمر بما لا يتم إلا به، وذلك حث على معرفة علوم الكون التي يستخرج بها ما سخره الله لنا، لأن منافعها لا تحصل لنا عفوا من دون طلب وفكر وتجارب؛ قال تعالى: {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس} [سورة الحديد: 25] فهذه المنافع لا تحصل إلا بالمعرفة بفنون الصنائع حتى يتم إنتاجها.

وقد تكاثرت نصوص الكتاب والسنة على الثناء على العلم وأهله وتفضيلهم على غيرهم؛ قال تعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} [سورة الزمر: 9] وإنهم أهل الخشية لله والمعرفة به: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [سورة فاطر: 28] وأمر الجهال بسؤال أهل العلم.

وقد أمر بعبادات كثيرة، وعفا عن محرمات؛ والأمر بالشيء والنهي عنه لا يمكن امتثال الأمر واجتناب النهي إلا بعد علمه ومعرفته فجميع الأوامر شرعية، والنواهي تدل على وجوب تعلم العلم الذي تتوقف عليه. كما أنه أباح معاملات، وحرم معاملات، لا يمكن تمييز الحلال والحرام منها إلا بالعلم. وقد ذمّ من لم يعرف حدود ما أنزل على رسوله من الكتاب والحكمة. ومن ذلك أنه أمر بالجهاد في عدة آيات، وبإعداد المستطاع من القوة للأعداء، وأخذ الحذر منهم. ولا يتمّ ذلك إلا بتعلم فنون الحرب والصنائع التي تتوقف القوة والحذر منهم عليها. وأمر بتعلّم أمور التجارة والأصول الاقتصادية، حتى إنه أمر أن يبتلى الأولاد الصغار اليتامى ويعلموا التجارة وطلب المكاسب. قال تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} [سورة النساء: 6] فلم يأمر بدفع أموالهم إليهم حتى يعلم رشدهم، ومعرفتهم لأمور المكاسب والتجارة.

فهذه الشريعة الكاملة أمرت بتعلم جميع العلوم النافعة: من العلم بالتوحيد، وأصول الدين، ومن علوم الفقه والأحكام، ومن علوم العربية، ومن العلوم الاقتصادية والسياسية، ومن العلوم التي تصلح بها الجماعات والأفراد. فما من علم نافع في الدين والدنيا إلا أمرت به هذه الشريعة وحثّت عليه ورغب فيه. فاجتمع فيها العلوم الدينية، والعلوم الكونية، وعلوم الدين، وعلوم الدنيا. بل إنها جعلت العلوم الدنيوية التي تنفع من علوم الدين. وأما المتطرّفون فإنهم اقتصروا على بعض علوم الدين، فقصروا وغلطوا غلطا فاحشًا.

وأما الماديون فإنهم اقتصروا على بعض علوم الكون، وأنكروا ما سواها، فألحدوا ومرجت أديانهم وأخلاقهم، وصارت علومهم حاصلها أنها صنائع جوفاء، لا تزكي العقول والأرواح، ولا تغذي الأخلاق. فكان ضررها عليهم أعظم من نفعها، فإنهم انتفعوا بها من جهة ترقية الصنائع والمخترعات وتوابعها، وتضرروا بها من جهتين:

إحداهما: أنها صارت أكبر نكبة عليهم وعلى جميع البشر، لما ترتّب عليها من الفناء والحروب المهلكة والتدمير.

الثانية: أنهم أعجبوا بها واستكبروا، فحقروا لذلك علوم الرسل وأمور الدين. {إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير} [سورة غافر: 65]، {وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} [سورة الأحقاف: 26]، {فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} [سورة فصلت: 83]، فتبيّن مما ذكرنا أن العلوم النافعة في العاجل والآجل: هي العلوم التي جاءت في كتاب الله وسنة رسول الله، وأنها احتضنت كل علم نافع، ومعرفة صحيحة، لا فرق بين الأصول والفروع، ولا بين الدينية والدنيوية، كما احتضنت عقيدتها الإيمان بكل حق وحقيقة، وبكل كتاب أنزله الله، وكلّ رسول أرسله الله. والحمد لله.


 

الدين الصحيح يحلّ جميع المشاكل، ضمن مجموع ابن سعدي (2/ 620 – 624).

للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله.