مشكلة الدين والعقيدة
وهذه المشكلة أهمّ مشاكل الحياة وأعظمها، وعليها تنبني الأمور كلها. وبصلاح الدين أو فساده أو عدمه تتوقّف جميع الأشياء. وقد تفرّق فيها البشر وسلكوا في دينهم وعقائدهم طرقا شتى، كلها منحرفة معوجة ضارة، غير نافعة إلا من اهتدى إلى دين الإسلام الحقيقي، فإنه حصلت له الاستقامة والخير والراحة من جميع الوجوه.
فمن الناس من تلاعب بهم الشيطان فعبدوا غير الله من الأشجار والأحجار والصور والأنبياء والملائكة والصالحين والطالحين، مع اعترافهم بأن الله ربهم ومالكهم وخالقهم، وحده لا شريك له. فاعترفوا بتوحيد الربوبية وانحرفوا عن توحيد الإلهية الذي هو إفراد الله بالعبادة، وهؤلاء هم المشركون على اختلاف مذاهبهم وتباين طوائفهم. وقد دلت الكتب السماوية على شقائهم وهلاكهم، واتّفق جميع الرسل على الأمر بتوحيد الله والنهي عن الشرك، وأن من أشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنة ومأواه النار. كما دلّت العقول السليمة والفطر المستقيمة على فساد الشرك والتأله والتعبد للمخلوقات والمصنوعات، فالشرك باطل في الشرع، فاسد في العقل، عاقبة أهله الهلاك والشقاء.
ومن الناس من آمن ببعض الرسل والكتب السماوية دون بعض، مع أن الرسل والكتب يصدّق بعضها بعضًا، ويوافق بعضها بعضًا، وتتّفق في الأصول الكلية. فصار هؤلاء ينقض تكذيبهم تصديقهم، ويبطل اعترافهم ببعض الأنبياء وبعض الكتب السماوية تكذيبهم للآخرين من الرسل، فبقوا في دينهم منحرفين، وفي إيمانهم متحيرين، وفي علمهم متناقضين. قال تعالى: {إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرّقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتّخذوا بين ذلك سبيلًا أولئك هم الكافرون حقًا} [ سورة النساء: 150 - 151] فحكم بالكفر الحقيقي لأنه عرف أن دعواهم للإيمان دعوى غير صحيحة، ولو كانت صحيحة لآمنوا بجميع الحقائق التي اتفقت عليها الرسل، ولكنهم قالوا: {نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحقّ مصدّقًا لما معهم} [سورة البقرة: 91] ولهذا دعواهم الإيمان دعوى كاذبة , فقال عنهم عز وجل: {فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين} [سورة البقرة : 91].
ومن الناس طائفة ادّعت الفلسفة والعلم بالمعقولات، فجاءت بأكبر الضلالات وأعظم المحالات، فجحدت الربّ العظيم وأنكرت وجوده، فضلًا عن الإيمان بالرسل والكتب وأمور الغيب، وجحدوا آيات الله واستيقنتها أنفسهم ظلمًا وعلوًا واستكبارًا: فكذّبوا بعلوم الرسل وما دلّت عليه الكتب المنزلة من عند الله، واستكبروا عنها بما عرفوا من العلوم الطبيعية وتوابعها، وأنكروا جميع الحقائق إلا ما أدركوه بحواسهم وتجاربهم القاصرة الضيقة بالنسبة إلى علوم الأنبياء. فعبدوا الطبيعة وجعلوها أكبر همهم ومبلغ علمهم، واندفعوا وراء ما تقتضيه طبائعهم، ولم يتقيدوا بشيء من الشرائع الدينية ولا الأخلاق الإنسانية. فصارت البهائم أحسن حالًا منهم، فإنهم نضبت منهم الأخلاق، واندفعوا وراء الشهوات البهيمية. فلم يكن لهم غاية يرجونها، ولا نهاية يطلبونها: {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر} [سورة الجاثية: 24] وصار المشركون على شركهم وكفرهم أحسن حالا منهم، وأقل شرا منهم بكثير. والعجب الكثير أن هذا المذهب الخبيث جرف بتياره في الأوقات الأخيرة جمهور البشر، لضعف الدين وقلة البصيرة، ولما وضعت له الأمم القوية الحبائل والمصايد التي هلك بها الخلق.
أما الدين الإسلامي فقد أخرج الخلق من ظلمات الجهل والكفر والظلم والعدوان وأصناف الشرور إلى نور العلم والإيمان واليقين والعدل والرحمة وجميع الخيرات. {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}. [سورة آل عمران: 164] {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون}. [سورة النحل: الآية 90] {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا}. [سورة المائدة: 3] {وتمّت كلمة ربك صدقًا وعدلًا}. [سورة الأنعام: 115] أي كلماته الدينية التي شرع بها الشرائع، وسنّ الأحكام.
وقد جعلها الله تامة من جميع الوجوه، لا نقص فيها بوجه من الوجوه، صدقًا في إخبارها عن الله وعن توحيده وجزائه وصدق رسله في أمور الغيب، عدلًا في أحكامها، أوامرها كلّها عدل وإحسان وخيرات وصلاح وإصلاح، ونواهيها كلها في غاية الحكمة، تنهى عن الظلم والعدوان والأضرار المتنوعة: {ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون}. [سورة المائدة: 50] وهذا استفهام بمعنى النفي المتقرر الذي تقرر حدوثه في العقول والفطر. فما أمر بشيء فقال العقل: ليته نهى عنه. ولا نهى عن شيء فقال العقل: ليته أمر به. لقد أباح هذا الدين كل طيب نافع، وحرم كل خبيث ضار. {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلّ لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} [سورة الأعراف: 157] فهو الدين الذي يوجه العباد إلى كل أمر نافع لهم في دينهم ودنياهم، ويحذّرهم عن كل أمر ضار في دينهم ومعاشهم، ويأمرهم عند اشتباه المصالح والمفاسد والمنافع والمضار بالمشاورة في استخراج ما ترجح مصلحته، ودفع ما ترجح مفسدته. وهو الدين العظيم الشامل، الذي أمر بالإيمان بكل كتاب أنزله الله، وبكل رسول أرسله الله. {فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتّبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير} [سورة الشورى: 15].
وهو الدين العظيم الذي شهد الرب العظيم بصحته وكماله، وشهد بذلك الكمّل من الخلق وخلاصتهم. {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله الإسلام} [سورة آل عمران: 18 - 19] وهو الدين الذي من اتّصف به جمع الله له جمال الظاهر والباطن، وكمال الأخلاق والأعمال: {ومن أحسن دينًا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن} [سورة النساء: 125] فلا أحسن ممن هو مخلص لله، محسن إلى عباد الله، مخلص لله متبع لشريعة الله التي هي أحسن الشرائع وأعدل المناهج , فانصبغ قلبه بالإخلاص والتوحيد، واستقامت أخلاقه وأعماله على الهداية والتسديد: {صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون} [سورة البقرة : 138] وهو الدين الذي فتح أهله، القائمون به، المتّصفون بإرشاداته وتعاليمه، القلوب بالعلم والإيمان، والأقطار بالعدل والرحمة والنصح لنوع الإنسان. وهو الدين الذي أصلح الله به العقائد والأخلاق، وأصلح به الحياة الدنيا والآخرة، وألف به القلوب المتشتتة، والأهواء المتفرقة. وهو الدين العظيم المحكم غاية الإحكام في أخباره كلها، وفي أحكامه، فما أخبر إلا بالصدق والحق، ولا حكم إلا بالحق والعدل، فلم يأت علم صحيح ينقض شيئا من أخباره، ولا حكم أحسن من أحكامه. أصوله وقواعده وأسسه تساير الزمان السابق واللاحق، فحيثما طبقت المعاملات المتنوعة بين الأفراد والجماعات في كل زمان ومكان على أصوله تمّ بها القسط والعدل، والرحمة والخير والإحسان، لأنها تنزيل من حكيم حميد: {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} [سورة هود: 1]. {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} [سورة فصلت: 42] {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [سورة الحجر: 9] حافظون لألفاظه عن الزيادة والنقص والتغيير، وحافظون لأحكامه عن الانحراف والنقص، بل هي في أعلى ما يكون من العدل والاستقامة والتيسير. وهو الدين العظيم الذي يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، الصدق شعاره، والعدل مداره، والحقّ قوامه، والرحمة روحه وغايته، والخير قرينه، والصلاح والإصلاح جماله وأعماله، والهدى والرشد زاده. وهو الدين الذي جمع بين مطالب الروح والقلب والجسد، أمر الله به المؤمنين بما أمر المرسلين، بعبادته والعمل الصالح الذي يرضيه، وبالأكل من الطيبات، واستخراج ما سخر الله لعباده في هذه الحياة، فدفع القائمين به حقيقة إلى كل علو ورقي وتقدم صحيح، من عرف شيئا من أوصاف هذا الدين عرف عظيم منة الله به على الخلق، وأن من نبذه وقع في الباطل والضلال والخيبة والخسران، لأن الأديان التي تخالفه ما بين خرافات ووثنيات، وما بين إلحاد وماديات، تجعل قلوب أهلها وأعمالهم كالبهائم بل هم أضلّ سبيلًا، لأن الدين إذا ترحل من القلوب ترخّلت الأخلاق الجميلة، وحل محلها الأخلاق الرذيلة. فهبطت بأهلها إلى أسفل الدركات، وصار أكبر همهم ومبلغ علمهم التمتع بعاجل الحياة. والحمد لله رب العالمين.
الدين الصحيح يحلّ جميع المشاكل، ضمن مجموع ابن سعدي (2/ 614 – 620).
للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله.