title3

 banner3333

 

(18) ذهاب الحياء

(18)

ذهاب الحياء

      [من عقوبات الذنوب:] ذهاب الحياء الذي هو مادة الحياة للقلب، وهو أصل كل خير، وذهابُه ذهابُ الخير أجمعه.

وفي الصحيح عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: "الحياء خير كله" [صحيح مسلم: 37].

وقال: "إنّ مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستَحْي (6) فاصنَعْ ما شئتَ! " [صحيح البخاري: 3483].

وفيه تفسيران:

أحدهما: أنه على التهديد والوعيد، والمعنى: من لم يستح فإنّه يصنع ما شاء من القبائح، إذ الحامل على تركها الحياء، فإذا لم يكن هناك حياء يزَعُه من القبائح، فإنّه يواقعها. وهذا تفسير أبي عبيد.

والثاني: أنّ الفعلَ إذا لم تستح منه من الله فافعله، وإنما الذي ينبغي تركه ما يستحى منه من الله. وهذا تفسير الإِمام أحمد في رواية ابن هانئ.

فعلى الأول يكون تهديدًا، كقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]، وعلى الثاني يكون إذنًا وإباحةً.

فإن قيل: فهل من سبيل إلى حمله على المعنيين؟

      قلت: لا، ولا على قول من يحمل المشترك على جميع معانيه، لما بين الإباحة والتهديد من المنافاة، ولكن اعتبار أحد المعنيين يوجب اعتبار الآخر.

      والمقصود أنّ الذنوب تُضْعِف الحياء من العبد حتى ربّما انسلخ منه بالكلية، حتى إنّه ربما لا يتأثّر بعلم الناس بسوء حاله ولا باطّلاعهم عليه، بل كثير منهم يخبر عن حاله وقبيح ما يفعله، والحامل له على ذلك انسلاخه من الحياء. وإذا وصل العبد إلى هذه الحال لم يبق في صلاحه مطمع، كما قيل:

وإذا رأى إبليسُ طلعةَ وجهه ... حَيَّا، وقال: فديتُ مَن لايفلحُ

      والحياء مشتقّ من الحياة، والغْيث يسمَّى"حيًا" بالقصر لأنّ به حياةَ الأرض والنبات والدوابّ، وكذلك بالحياء حياةُ الدنيا والآخرة، فمن لا حياء فيه ميِّتٌ في الدنيا شقيّ في الآخرة.

وبيّن الذنوب وبيّن قلّة الحياء وعدم الغيرة تلازم من الطرفين، وكلّ منهما يستدعي الآخر، ويطلبه حثيثًا. ومن استحيا من الله عند معصيته استحيا الله من عقوبته يوم يلقاه، ومن لم يستحْيِ من معصيته لم يستحيِ من عقوبته.


 

[الداء والدواء: 168 - 170]

للإمام ابن قيّم الجوزية رحمه الله.