ما لا يعلمه علماء الفلك
انطلاقًا من عدد الكتب والمقالات الصادرة عن الموضوع، يمكننا الحكم بأن كثيرًا منها يمضي في مجال نشأة الكون التطوّرية، كمحاولة علماء الفلك والفيزياء الفلكية دراسة كيف نشأ الكون وكيف تطوّرت مكوّناته المختلفة، بما فيها ملايين المجرّات والنجوم والكواكب، وغيرها من الأشياء الممتدة عبر الكون الفسيح.
من عادتي أن أحاول القيام بمسح عشرة أو عشرين صحيفة علمية كل شهر، ويبدو لي أنه لا حدّ للمقالات والأبحاث التي لا تعدو مضامينها أن تكون تخمينات عن هذه الموضوعات. مثل: "رحمات الله" فإنها "جديدة كل صباح". رغم أنها بالكاد ما تكون مفيدة. وكما قال أحد العلماء بنبرة حزن في الوقت الذي يكال فيه المدح للعلم ككل: "وحتى اليوم، لا تزال بعض العلوم الهامة توفّر فرصًا ضئيلة للتطبيق العملي. وعلماء الفضاء والفلك من بين هذه العلوم التي يقلّ تطبيق مقتضياتها عمليًا على سطح كوكب الأرض"(1).
إنها نقطة صحيحة، رغم أنها بالطبع ليست محقّة تمامًا. فالنجوم المرئية كانت لمدة قرون محلّ اشتغال واسع في مجالات الملاحة البحرية والمسح الأرضي وقياس الوقت.
لكن النجوم البعيدة والمجرّات، القابلة للملاحظة فقط عبر أجهزة التلسكوب العملاقة، لم يتمّ توظيفها إلا لإذكاء التخمينات حول أصل الكون وتطوّره. وهذا أيضًا هو الحافز الأولى بالاهتمام عند علماء وكالة الفضاء الأمريكية نازا (NASA) وبرنامجهم الفضائي، وهم يحاولون تحديد كيفية نشأة الأرض والنظام الشمسي. بل وكيفية نشوء الحياة.
يقتبس المعلّق الصحفي الشهير جورج ويل من الفيزيائي ستيف وينبرغ قوله: "إن مجهودنا لفهم الكون واحد من الأشياء القليلة جدًّا التي تجعل حياة البشر تتخطّى قليلًا مستوى المهزلة، وتمنحها شيئًا من نعمة المأساة"(2).
من الواضح أنها نظرة مظلمة ومتشائمة، لكنها تمثّل الاستنتاج المنطقي الوحيد الذي يمكن الخروج به من أي رؤية كونية تطورية منسجمة.
ومع كل مليارات الدولارات التي أنفقت على هذه الدراسات وكل القدرات العقلية التي يتمتع بها عدد كبير من العلماء اللامعين الذين كرّسوا أنفسهم لهذه الدراسات والتي انحرفوا من أجلها عن سبيل البحث المفيد، فما يزالون يجهلون الإجابات عن الأسئلة التي تعدّ مفاتيح لمعرفة الكون.
بقدر ما يعني الأمر بالنسبة لأصل الكون، فقد كان الاعتقاد السائد عنه هو الانفجار العظيم. وفي الحقيقة، لا أحد يعلم حقيقة الأمر.
وعلى الأقل، فإن الانفجار العظيم يضع بداية، لكن تلك البداية تتشكّل من جزيئة من الفضاء/الزمن متناهية الصغر والتي تنفجر وتتطوّر عبر مليارات السنين حتى تصل إلى فلكنا الحالي. يقول أحد الكتّاب في مجال العلوم محاولًا إفهامنا هذه القضية:
"لا تتخيّل الفضاء الخارجي دون مادة فيه، تخيّل أن لا فضاء ولا مادة إطلاقًا، مع تمنياتنا لك بحظ سعيد في محاولاتك هذه. بالنسبة لشخص متوسّط في التفكير، فيبدو جليًا أنه لا يمكن للعدم أن يحدث من العدم. لكن في نظر عالم فيزيائي كمية، فإن العدم شيء موجود"(3).
يسمّي مؤلف المقال السابق هذا المفهوم "تخمينًا كبيرًا"، ومن المؤكّد أنه ليس شيئًا ما بحيث يعلمه كل أحد!
كان أوّل من أتى بما يسمّى بالتخمين الكبير عالم الفيزياء الفلكية بمعهد ماساتشوستس للتقنية ألان غوث. واستنادًا إلى هذا المفهوم فقد كان على جزيئة الفضاء/الزمن التي انفجرت مولدة الانفجار العظيم أن تمر عبر فترة تضخم فلكي، والذي يفترض أن يحلّ الإشكالات العديدة الحاضرة في نظرية الانفجار العظيم غير المعدلة.
وهذه الأخيرة يقال إنها "فردية" [أحادية]، حيث تتوقّف المعادلات التي تصف ظاهرة توسّع الكون هذه عن التحقّق. وفي أماكن كهذه، تذوب الفيزياء فيما وراء الطبيعة [الميتافيزيقا]. لا تقبل هذه النقاط الرياضية أي تفسير، بل وجودها غني عنه(4).
إن العلماء عاجزون عن تفسير الأحاديات، مما يعني عجزهم عن تفسير الانفجار العظيم. ومع أن نظرية غوث جاءت للسيطرة على الإشكالات، فإن القول الآن بالتضخّم مقبول عند أكثر العلماء. ومهما يكن من أمر، فهذا القبول ليس بكبير فائدة، فقد طرأ على القول بالتضخّم كثير من التعديلات المقترحة.
لقد اقترح حوالي 50 شكلًا لتفسير التضّخم، وتمّت تسميّتها، ودراستها، بما فيها التضخّم الثنائي والثلاثي والهجين. والهجين المائل، والفائق التمدد "الدافئ" و"الناعم" و"الفاتر" و"الطبيعي"(5).
وحتى لو تمكّن علماء الفلك فعلًا من فهم كل ما يتعلّق بالتضخّم - من أن التضخّم فائق السرعة للكون إلى نحو حجم فاكهة الكريب في ظرف جزء ضئيل من الثانية متقدّم على الانفجار العظيم - فهذا لن يجيب عن سؤال كيف بدأ الكون؟ فما تزال تلك ”الأحادية” هناك.
من باب التوضيح، فتضخّم الفلك، لا يفني الأحادية البدائية بل ببساطة يعزلها عن الكون الحالي(6).
إذن، ما يجهله علماء الفلك هو أمر واحد: كيف بدأ الكون؟ إنهم يلجؤون إلى الفيزياء الكمية، قائلين إنه نشأ بطريقة ما من العدم الأولي. وبالطبع فلا علم لهم بهذه النشأة أيضًا.
تتمسك نظرية الكم بأن فراغًا، كما هو حال الذرات، هو موضوع لشكوك الكم. يعني هذا أن بإمكان الأشياء أن تصبح مادية خارج الفراغ، رغم كونها تؤول إلى أن تتلاشى فيه بسرعة ... لم يتمّ أبدًا رصد هذه الظاهرة مباشرة(7).
ورغم عدم القدرة على ملاحظتها، يأمل غوث والآخرون أن يحصل ذلك. وبالطبع فإنهم لا يعلمون ذلك. وعلى الرغم من هذا، يؤمن غوث أن كل ما سبق متوافق مع قوانين الفيزياء، لكن هذا يطرح سؤالا آخر: "ما مصدر قوانين الفيزياء؟" يتوقّف غوث قائلًا: "نحن بعيدون جدًّا عن الإجابة على هذا السؤال"(8).
نعم، يمكن أن يكون ذلك فجوة كبيرة جدًّا في المعرفة العلمية. لكن ربما علينا تجاوز السؤال عن أصل الكون ودراسة الإشكالات الأكثر سلاسة مثل أصل النجوم والمجرّات، فهي قابلة للملاحظة وتطبيق الفيزياء الاعتيادية عليها. أوليس كذلك؟ إن مجرتنا كيان عالي التطور... إنها بنية راقية تظهر كلا من النظام والتعقيد ... والحصيلة النهائية هائلة خصوصًا في ضوء ما يعتقد أن يكون نقطة البداية: نقطًا ضبابية من الغاز. فالكيفية التي شكل بها الكون مجرة درب التبانة من بدايات بسيطة مماثلة ليست واضحة كليًا(9).
هذا ليس واضحًا تمامًا، فببساطة هم لا يعلمون كيف نشأت مجرّتنا، بل لعلّ علمهم بكيفية نشوء مجرات أخرى أكثر من علمهم بكيفية نشوء درب التبانة.
لكن ماذا عن النجوم المنفردة؟ يقودنا التخمين المعياري إلى القول بأن النجوم الأولى، التي تدعى الساكنة 3، كانت تتكوّن فقط من الهيدروجين والهيليوم، أما النجوم المتأخّرة ذات العناصر الأثقل فيفترض أنها تولّدت عندما تقلّصت النجوم الأولى، مشكّلة بذلك عناصر أثقل في أجزائها الداخلية الساخنة والتي حينئذ عبرت الفضاء لتصل إلى الالتحام النهائي الذي يكفي لتكوين شموس جديدة. وهذا السيناريو الهام واسع الانتشار في الوسط العلمي، لكن هل حصل ذلك حقا؟
هل خرجت النجوم المتأخّرة إلى الوجود عبر متغيّرات تجتمع على موضوع مشترك (كتقلص السحب الجزيئية) أو عبر تدافع يتسم بالغليان لعدة قوى وآليات متفاوتة؟ لا أحد يعلم ذلك!(10).
وبالنسبة لتلك النجوم البسيطة الأولى الافتراضية: أي تلك النجوم التي ولد تقلصها في النهاية كل النجوم المعقدة الأخرى، فحتى وجودها ما زال قيد المجهول.
لم ير علماء الفلك قط نجمًا خالصًا تابعًا للساكنة 3، رغم قضاء سنوات في تمشيط مجرّة درب التبانة(11).
لا يسمح الفضاء بأن نناقش هنا التخمينات المتنوّعة عن مكوّنات أخرى للكون (كواكب، كويكبات، أقمار طبيعية، مادة مظلمة) كما أن الجهل بهذه المواد عميق جدًّا. كما أشار إلى ذلك مرة عالم فلك بارز آخر، وهو آلان سانداج قائلا: "إن دراسة الأصول عبارة عن فن استنتاج نتائج كافية من دليل غير كافٍ"(12).
قد تتغيّر نتائج القوم على نحو واسع من عالم إلى آخر، لكنهم يحاولون كلهم إبقاءها منسجمة مع افتراضهم الأساس لتطور الكون خلال مليارلت السنين. من الجيد أن نتذّكر أنهم يجهلون كيف تطوّر الكون، أو النجوم أو المجرّات أو أي شيء آخر.
بقلم: د. هنري موريس (عالم أمريكي وبروفسور في الهندسة الهيدروليكية، ومؤسس معهد الأبحاث المختصة بالخلق). (بالتصرّف).
المراجع:
1-Horace F. Judson, "Century of the Sciences," Science 84 (November, 1984), pp. 42.
2-George F. Will, "Trying to Understand the Universe" (Syndicated column as published in the San Diego Union-Tribune, March 24, 2002) p. G_2.
3-Brad Lemley, "Guth's Grand Guess," Discover (vol. 23, April 2002), p. 35.
4-Anonymous, "Been There, Done That," Scientific American (vol. 286. March 2002), p. 25.
5-Lemley, op cit., p. 38.
6-"Been There, Done That," op cit., p. 25.
7-Lemley, op cit., p. 35.
8-Ibid., p. 38.
9-Cristina Chiappini, "The Formation and Evolution of the Milky Way," American Scientist (vol. 89, Nov./Dec. 2001), p. 506.
10-Linda Rowan and Robert Coontz, "Great Balls of Fire," Science (vol. 295, January 4, 2002), p. 63.
11-Robert Irion, "The Quest for Population III," Science (vol. 295, January 4, 2002), p. 66.
12-Alan Sandage, as quoted by Chiappini op cit., p. 515.