title3

 banner3333

 

(16) أمثلة من النبوءات القرآنية (فيما يتصل بمستقبل المعاندين)

أمثلة من النبوءات القرآنية (فيما يتصل بمستقبل المعاندين)

وهذه أمثلة من النوع الثالث:

استعصى أهل مكة على النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فدعا عليهم بسنين كسني يوسف، فانظر ما قاله القرآن في جواب هذا الدعاء: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ، يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان: 10 - 11] فماذا جرى؟ أصابهم القحط حتى أكلوا العظام، وحتى جعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد. رواه البخاري عن ابن مسعود. ثم انظر قوله بعد ذلك: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ، يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان: 15 - 16] تَرَ فيها ثلاث نبوءات أخرى:

  • كشف البؤس عنهم.
  • ثم عودتهم إلى مكرهم السيئ.
  • ثم الانتقام منهم بعد ذلك.

وقد كان ذلك كله كما بينه الحديث الصحيح المذكور، فإنهم لما جاءوا إلى رسول الله يستسقون وتضرعوا إلى الله: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخّان: 12] سقاهم الله فأخصبوا، ولكنهم سرعان ما عادوا إلى عتوهم واستكبارهم، فبطش الله بهم البطشة الكبرى يوم بدر، حيث قُتل من صناديدهم سبعون، وأُسر سبعون.

فتارة يأتي محملًا كما في قوله: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ} [الرعد: 31] وقوله {فتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ، وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} [الصافات: 174 – 175].

وتارة يعين نوع العذاب بأنه الهزيمة الحربية كما في قوله: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45]. وهذا كما ترى من عجيب الأنباء في مكة، حيث لا مجال لأصل فكرة الحرب والتقاء الجموع، فضلًا عن توقع فرارها وهزيمتها، حتى إن عمر (رضي الله عنه) لما نزلت هذه الآية جعل يقول: أي جمع هذا؟ قال: فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يقولها. رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه، وعجزه في الصحيحين.

وتارة ينصّ على حوادث جزئية محددة منه - وهذا أعجب وأغرب - كما في قوله في شأن الرجل الزنيم، الذي كان يقول في القرآن: إنه أساطير الأولين {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} [ن: 16] فأصيب بالسيف في أنفه يوم بدر. وكان ذلك علامة له يعيَّر بها ما عاش. رواه الطبري وغيره عن ابن عباس.

ونظير هذه الأنباء في كفار قريش ما ورد في كفار اليهود. انظر كيف يقول فيهم: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} [آل عمران: 111] وقد فعل. ثم يقول: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران: 112]. ويقول: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف: 167].

فيا عجبًا لهذه الآيات! هل كانت مؤلّفة من حروف وكلمات؟ أم كانت أغلالًا وضعت في أعناقهم إلى الأبد، وأصفادًا شُدّت بها أيديهم فلا فكاك؟ ألا تراهم منذ صدرت عليهم هذه الأحكام أشتاتًا في كل واد، أذلاء في كل ناد ... وهل أتاك آخر أنبائهم؟

لقد زينت الآن لهم أحلامهم أن يتخذوا من "الأرض المقدسة" وطنًا قوميًّا تأوي إليه جالياتهم من أقطار الأرض، حتى إذا ما تألف هنالك شعب ملتئم الشمل وطال عليهم الأمد فلم يزعجهم أحد، سعوا إلى رفع هذا العار التاريخي عنهم بإعادة ملكهم القديم في تلك البلاد. وعلى برق هذا الأمل أخذ أفواج منهم يهاجرون إليها زرافاتٍ ووحدانًا، وينزلون بها خفافًا أو ثقالًا.. فهل استطاعوا أن يتقدموا هذه الخطوة الأولى -أو لعلها الأولى والأخيرة - مستندين إلى قوتهم الذاتية؟ كلا، ولكن مستندين إلى "حبل من الناس!! " فماذا تقول؟ قل: صدق الله، ومن أصدق من الله حديثًا، أما ظنهم الذي يظنون وهو أنهم بمزاحمتهم للسكان في أرضهم وديارهم يمهدون لما يحلمون به من مزاحمتهم بعد في ملكهم وسلطانهم، فذلك ما دونه خرط القتاد، يريدون أن يبدلوا كلام الله، ولا مبدل لكلماته {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} [النساء: 53] {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج: 20].

فانظر إلى عجيب شأن النبوءات القرآنية كيف تقتحم حجب المستقبل قريبًا وبعيدًا، وتتحكم في طبيعة الحوادث توقيتًا وتأييدًا، وكيف يكون الدهر مصداقًا لها فيما قل وكثر، وفيما قرب وبعد؟

بل انظر إلى جملة ما في القرآن من النواحي الإخبارية كيف يتناول بها محمد (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ما وراء حسه وعقله من أنباء ما كان وما سيكون وما هو كائن، وكيف أنه كلما حدثنا فيها عن الماضي صدقته شواهد التاريخ، وكلما حدثنا عن المستقبل صدقته الليالي والأيام، وكلما حدثنا عن الله وملائكته وشئون غيبه صدقته الأنبياء والكتب.

ثم اسأل نفسك بعد ذلك "أترين هذا الرجل الأمي جاء بهذا الحديث كله من عند نفسه؟ ".. تسمع منها جواب البديهة الذي لا تردد فيه "إنه لا بد أن يكون قد استقى هذه الأنباء من مصدر علمي وثيق، واعتمد فيها على اطلاع واسع ودرس دقيق. ولا يمكن أن تكون تلك الأنباء كلها وليدة عقله وثمرة ذكائه وعبقريته" وإلا فأين هذا الذكي أو العبقري الذي أعطاه الدهر عهدًا بأن يكون عاصمًا لظنونه كلها من الخطأ في كشف وقائع الماضي مهما قدم، وأنباء المستقبل مهما بعد؟


 

 [النبأ العظيم نظرات جديدة في القرآن الكريم: 79 - 82]

للدكتور محمد بن عبد الله دراز.