title3

 banner3333

 

8. طرف من سيرة النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) العامة

النبأ العظيم (8)

طرف من سيرة النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) العامة

     فإذا أنت صعدت بنظرك إلى سيرته العامة لقيت من جوانبها مجموعة رائعة من الأخلاق العظيمة. وحسبك الآن منها أمثلة يسيرة إذا ما تأملتها صورت لك إنسانًا الطهر ملء ثيابه، والجدّ حشو إهابه، يأبى لسانه أن يخوض فيما لا يعلمه، وتأبى عيناه أن تخفيا خلاف ما يعلنه، ويأبى سمعه أن يصغي إلى غلو المادحين له، تواضع هو حلية العظماء، وصراحة نادرة في الزعماء، وتثبت قلما تجده عند العلماء. فأنى من مثله الختل أو التزوير، أو الغرور أو التغرير؟ حاشا لله!

  • يتبرأ من علم الغيب:

جلست جويريات يضربن بالدف في صبيحة عرس الربيع بنت معوذ الأنصارية، وجعلن يذكرن آباءهن من شهداء بدر حتى قالت جارية منهن: وفينا نبي يعلم ما في غد. فقال (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): "لا تقولي هكذا، وقولي ما كنت تقولين" [البخاري: 4001]. ومصداقه في كتاب الله تعالى: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام: 50] {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} [الأعراف: 188].

  • لا يُظهر خلاف ما يبطن:

كان عبد الله بن أبي السرح أحد النفر الذين استثناهم النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) من الأمان يوم الفتح لفرط إيذائهم للمسلمين وصدهم عن الإسلام، فلما جاء إلى النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لم يبايعه إلا بعد أن شفع له عثمان (رضي الله عنه) ثلاثًا، ثم أقبل على أصحابه فقال: "أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين كفّفت يدي عن بيعته فيقتله"؟ فقالوا: ما ندري ما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك! فقال (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم)َ: "إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة الأعين". [أبو داود في السنن (2683)، وصحّحه الألباني في الصحيحة (1723)].

  • خوفه من التقوّل على الله:

وجيء بصبي من الأنصار يصلي عليه، فقالت عائشة (رضي الله عنها): طوبى لهذا، لم يعمل شرًّا. فقال (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): "أو غير ذلك يا عائشة، إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلًا، وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلًا، وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم" [مسلم: 30 - 31].

  • لا يدري ماذا سيكون حظّه عند الله:

ولما توفّي عثمان بن مظعون (رضي الله عنه( قالت أم العلاء -امرأة من الأنصار -: رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله. فقال (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): "وما يدريك أن الله أكرمه"؟! فقال: بأبي أنت يا رسول الله، فمن يكرمه الله؟ قال: "أما هو فقد جاءه اليقين، والله إني لأرجو له الخير. والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي". قالت: فو الله لا أزكي أحدًا بعده أبدًا [البخاري: 1243]. ومصداقه في كتاب الله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} [الأحقاف: 9].

أتراه لو كان حين يتحامى الكذب يتحاماه دهاءً وسياسة، خشية أن يكشف الغيب قريبًا أو بعيدًا عن خلاف ما يقول، ما الذي كان يمنعه أن يتقول ما يشاء في شأن ما بعد الموت وهو لا يخشى من يراجعه فيه، ولا يهاب حكم التاريخ عليه؟! بل منعه الخلق العظيم، وتقدير المسئولية الكبرى أمام حاكم آخر أعلى من التاريخ وأهله {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ، فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف: 6 – 7].


[النبأ العظيم نظرات جديدة في القرآن الكريم: 61 – 63]

للدكتور محمد بن عبد الله دراز.