title3

 banner3333

 

6. توقّف الرسول -أحيانًا- في فهم مغزى النص حتى يأتيه البيان

النبأ العظيم (6)

توقّف الرسول -أحيانًا- في فهم مغزى النص حتى يأتيه البيان:

     ولقد كان يجيئه الأمر بالقول المجمل أو الأمر المشكل الذي لا يستبين هو ولا أصحابه تأويله حتى ينزل الله عليهم بيانه بعد. قل لي بربك: أيّ عاقل توحي إليه نفسه كلامًا لا يفهم هو معناه، وتأمره أمرًا لا يعقل هو حكمته؟ أليس ذلك من الأدلة الواضحة على أنه ناقل لا قائل، وأنه مأمور لا آمر؟

  • موقفه في قضية المحاسبة على النيات:

نزل قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284]، أزعجت الآية الصحابة إزعاجًا شديدًا، وداخل قلوبهم منها شيء لم يدخلها من شيء آخر؛ لأنهم فهموا منها أنهم سيحاسبون على كل شيء حتى حركات القلوب وخطراتها - فقالوا: يا رسول الله، أنزلت علينا هذه الآية ولا نطيقها - فقال لهم النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم)َ: "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير" [مسلم: 199]. فجعلوا يتضرعون بهذ الدعوات حتى أنزل الله بيانها بقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، إلى آخر السورة المذكورة، وهناك علموا أنهم إنما يحاسبون على ما يطيقون من شأن القلوب، وهو ما كان من النيات المكسوبة والعزائم المستقرة، لا من الخواطر والأماني الجارية على النفس بغير اختيار.

الحديث في مسلم وغيره، وأشار إليه البخاري في التفسير مختصرًا. وموضع الشاهد منه أن النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لو كان يعلم تأويلها من أوّل الأمر لبيّن لهم خطأهم ولأزال اشتباههم من فوره؛ لأنه لم يكن ليكتم عنهم هذا العلم وهم في أشد الحاجة إليه، ولم يكن ليتركهم في هذا الهلع الذي كاد يخلع قلوبهم وهو بهم رءوف رحيم، ولكنه كان مثلهم ينتظر تأويلها. ولأمر ما أخر الله عنهم هذا البيان. ولأمر ما وضع حرف التراخي في قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19].

  • مسلكه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلح الحديبية:

واقرأ في صحيح البخاري وسنن أبي داود وغيرهما قضية الحديبية، ففيها آية بيّنة: أذن الله للمؤمنين أن يقاتلوا من يعتدي عليهم أينما وجدوه، غير ألا يقاتلوا في الحرم من لم يقاتلهم فيه نفسه، فقال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190] فلما أجمعوا زيارة البيت الحرام في ذلك العام - وهو العام السادس من الهجرة - أخذوا أسلحتهم حذرًا أن يقاتلهم أحد فيدافعوا عن أنفسهم الدفاع المشروع، ولما أشرفوا على حدود الحرم علموا أن قريشًا قد جمعت جموعها على مقربة منهم فلم يئن ذلك من عزمهم؛ لأنهم كانوا على تمام الأهبة، بل زادهم ذاك استبسالًا وصمموا على المضي إلى البيت، فمن صدّهم عنه قاتلوه، وكانت قريش قد نهكتها الحروب، فكانت البواعث كلها متضافرة والفرصة سانحة للالتحام في موقعة فاصلة يتمكن فيها الحق من الباطل فيدمغه، وإنهم لسائرون عند الحديبية إذ بركت راحلة النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وأخذ أصحابه يثيرونها إلى جهة الحرم فلا تثور، فقالوا: خلأت القصواء، خلأت القصواء، أي حرنت الناقة، فقال النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): "ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل".

يعني أن الله الذي اعتقل الفيل ومنع أصحابه من دخول مكة محاربين هو الذي اعتقل هذه الناقة ومنع جيش المسلمين من دخولها الآن عنوة، وهكذا أيقن أن الله تعالى لم يأذن لهم في هذا العام بدخول مكة مقاتلين، لا بادئين ولامكافئين. وزجر الناقة فثارت إلى ناحية أخرى فنزل بأصحابه في أقصى الحديبية، وعدل بهم عن متابعة السير؛ امتثالًا لهذه الإشارة الإلهية التي لا يعلم حكمتها، وأخذ يسعى لدخول مكة من طريق الصلح مع قريش قائلًا: "والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها" [البخاري: 2731]، ولكن قريشًا أبت أن يدخلها في هذا العام لا محاربًا ولا مسالما، وأملت عليه شروطًا قاسية بأن يرجع من عامه، وأن يرد كل رجل يجيئه من مكة مسلمًا، وألا ترد هي أحدًا يجيئها من المدينة تاركًا لدينه، فقبل تلك الشروط التي لم يكن ليمليها مثل قريش في ضعفها على مثل المؤمنين في قوتهم، وأمر أصحابه بالتحلّل من عمرتهم وبالعودة من حيث جاءوا، فلا تسل عما كان لهذا الصلح من الوقع السيئ في نفوس المسلمين، حتى إنهم لما جعلوا يحلقون بعضهم لبعض كاد يقتل بعضهم بعضًا ذهولًا وغمًّا، وكادت تزيغ قلوب فريق من كبار الصحابة، فأخذوا يتساءلون فيما بينهم، ويراجعونه هو نفسه قائلين: لِمَ نعطي الدنية في ديننا؟ وهكذا كاد الجيش يتمرد على أمر قائده ويفلت حبله من يده، أفلم يكن من الطبيعي إذ ذاك لو كان هذا القائد هو الذي وضع هذه الخطة بنفسه أو اشترك في وضعها أو وقف على أسرارها أن يبين لكبار أصحابه حكمة هذه التصرفات التي فوق العقول، حتى يطفئ نار الفتنة قبل أن يتطاير شررها؟

ولكن انظر كيف كان جوابه حين راجعه عمر: "إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري". يقول: إنما أنا عبد مأمور ليس لي من الأمر شيء إلا أن أنفذ أمر مولاي واثقًا بنصره قريبًا وبعيدًا. وهكذا ساروا راجعين وهم لا يدرون تأويل هذا الإشكال حتى نزلت سورة الفتح فبينت لهم الحكم الباهرة والبشارات الصادقة، فإذا الذي ظنوه ضيمًا وإجحافًا في بادئ الرأي كان هو النصر المبين والفتح الأكبر1 وأين تدبير البشر من تدبير القدر؛ {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا، هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا، إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا، لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 24 – 27].


[النبأ العظيم نظرات جديدة في القرآن الكريم: 57 – 60]

للدكتور محمد بن عبد الله دراز.