title3

 banner3333

 

طريقة القرآن في تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم

طريقة القرآن في تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم

 

هذا الأصل الكبير: قرره الله في كتابه بالطرق المتنوّعة التي يعرف بها كمال صدقه (صلى الله عليه وسلم) فأخبر أنه صدق المرسلين، ودعا إلى ما دعوا إليه، وأن جميع المحاسن التي في الأنبياء في نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) وما نُزِّهوا عنه من النقائص والعيوب، فرسولنا محمد (صلى الله عليه وسلم) أولاهم وأحقّهم بهذا التنزيه، وأن شريعته مهيمنة على جميع الشرائع، وكتابه مهيمن على كل الكتب. فجميع محاسن الأديان والكتب قد جمعها الله في هذا الكتاب وهذا الدين، وفاق عليها بمحاسن وأوصاف لم توجد في غيره، وقرر نبوته بأنه أمي لا يكتب ولا يقرأ، ولا جالس أحدًا من أهل العلم بالكتب السابقة، بل لم يَفْجَأ الناس إلا وقد جاءهم بهذا الكتاب الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله ما أَتوا ولا قَدِروا، ولا هو في استطاعتهم ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، وأنه محال مع هذا أن يكون من تلقاء نفسه، أو أن يكون قد تقوَّله على ربه، أو أن يكون على الغيب ظنينًا.

وأعاد القرآن وأبدى في هذا النوع، وقرّر ذلك بأنه يخبر بقصص الأنبياء السابقين مطولة على جميع الواقع، الذي لا يستريب فيه أحد، ثم يخبر تعالى: أنه ليس له طريق ولا وصول إلى هذا إلا بما آتاه الله من الوحي، كمثل قوله تعالى لما ذكر قصة موسى مطولة {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} [القصص: 44] ولما ذكر قصة يوسف وإخوته مطولة قال:{وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [يوسف:102]

فهذه الأمور والإخبارات المفصّلة التي يفصلها الرسول (صلى الله عليه وسلم) بما أوحي إليه تفصيلًا، صحح به أكثر الأخبار والحوادث التي كانت في كتب أهل الكتاب محرفة ومشوهة بما أضافوا إليها من خرافات وأساطير، حتى ما يتعلّق منها بعيسى وأمه وولادتهما ونشأتهما، وبموسى وولادته ونشأته، كل ذلك وغيره لم يكن يعرفه أهل الكتاب على حقيقته حتى جاء القرآن، فقص ذلك على ما وقع وحصل، مما أدهش أهل الكتاب وغيرهم، وأخرس ألسنتهم حتى لم يقدر أحد منهم ممن كان في وقته، ولا ممن كانوا بعد ذلك، أن يكذبوا بشيء منها، فكان ذلك من أكبر الأدلة على أنه رسول الله حقًّا.

وتارة يقرر نبوته بكمال حكمة الله، وتمام قدرته، وأن تأييده لرسوله ونصره على أعدائه، وتمكينه في الأرض هو مقتضى حكمةِ ورحمةِ العزيز الحكيم، وأن من قدح في رسالته فقد قدح في حكمة الله وفي قدرته. وفي رحمته، بل وفي ربوبيته.

وكذلك نصره وتأييده الباهر لهذا النبي (صلى الله عليه وسلم) على الأمم الذين هم أقوى أهل الأرض من آيات رسالته، وأدلة توحيده، كما هو ظاهر للمتأمّلين.

وتارة يقرر نبوته ورسالته بما جمع له وكمله به من أوصاف الكمال، وما هو عليه من الأخلاق الجميلة، وأن كل خلق عال سام فلرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ منه أعلاه وأكمله.

فمن عظمت صفاته، وفاقت نعوته جميع الخلق التي أعلاها: الصدق والأمانة، أليس هذا أكبرَ الأدلة على أنه رسول رب العالمين، والمصطفى المختار من الخلق أجمعين؟

وتارة يقررها بما هو موجود في كتب الأولين، وبشارات الأنبياء والمرسلين السابقين، إما باسمه العلم أو بأوصافه الجليلة، وأوصاف أمته وأوصاف دينه، كما في قوله تعالى:{وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} الصف: 6].

وتارة يقرّر رسالته بما أخبر به من الغيوب الماضية والغيوب المستقبلة، التي وقعت في زمان مضى على زمانه، أو وقعت في زمانه والتي لا تزال تقع في كل وقت، فلولا الوحي ما وصل إليه شيء من هذا، ولا كان له ولا لغيره طريق إلى العلم به.

وتارة يقرّرها بحفظه إياه، وعصمته له من الخلق، مع تكالب الأعداء وضغطهم عليه، وجِدِّهم التام في الإيقاع به بكل ما في وسعهم، والله يعصمه ويمنعه منهم وينصره عليهم، وما ذاك إلا لأنه رسوله حقا، وأمينه على وحيه والمبلغ ما أمر به.

وتارة يقرر رسالته بذكر عظمة ما جاء به وهو القرآن الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] ويتحدّى أعداءه، ومن كفر به أن يأتوا بمثله أو بعشر سور مثله أو بسورة واحدة، فعجزوا ونكصوا وباءوا بالخيبة والفشل، وهم أهل اللسان المُبَرِّزون في ميدان القول والفصاحة، ومع ذلك ما استطاعوا ـ مع شدة حرصهم

ومحاولتِهم أن يأتوا بسورة منه وما استطاعوا ولا قدروا ـ مع شدة حرصهم ومحاولتِهم أن يجدوا فيه نقصًا أو عيبًا ينزل به عن أعلى درجات الفصاحة التي ملكت أزمة قلوبهم، فلجأوا إلى السيف وإراقة دمائهم، وما كانوا يعمدون إلى هذا لولا أنهم لم يجدوا سبيلاً إلى محاربته بالقول، وما كانوا يزعمونه عندهم علوماً وحكماً، فكان عدولهم إلى السيف وإراقة الدماء أكبر الأدلة على صدق الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنه لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وأقطع البراهين على أنه الحق والهدى من عند الله الذي جمع الله فيه لرسوله وللمؤمنين به كل ما يكفل لهم سعادة الدنيا والآخرة في كل شئونهم. وأن هذا القرآن لأكبرُ أدلة رسالته وأجلُّها وأعمُّها.

والله تعالى يقرر أن القرآن كافٍ جدًّا أن يكون هو الدليل الوحيد على صدق رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مواضع عدة، منها قوله: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:51].

وتارة يقرّر رسالته بما أظهر على يديه من المعجزات، وما أجرى له من الخوارق والكرامات، الدالِّ كل واحد منها بمفرده ـ فكيف إذا اجتمعت ـ على أنه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.

وتارة يقررها بعظيم شفقته على الخلق، وحُنوِّه الكامل على أمته، وأنه بالمؤمنين رؤوف رحيم، وأنه لم يوجد ولن يوجد أحد من الخلق أعظم شفقة ولا برًّا وإحسانًا إلى الخلق منه، وآثار ذلك ظاهرة للناظرين.

فهذه الأمور والطرق قد أكثر الله من ذكرها في كتابه وقررها بعبارات متنوعة، ومعاني مفصلة وأساليب عجيبة، وأمثلتها تفوق العد والإحصاء. والله أعلم.


(القواعد الحسان لتفسير القرآن 22 – 24، للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي).