الآيات القرآنية التي يفهم منها قصَّار النظر التعارض:
يجب حمل كل نوع منها على ما يليق ويناسب المقام كل بحسبه
وهذا في مواضع متعددة من القرآن:
منها: الإخبار في بعض الآيات أن الكفار لا ينطقون، ولا يتكلّمون يوم القيامة، وفي بعضها: أنهم ينطقون ويحاجُّون ويعتذرون ويعترفون: فمحمل كلامهم ونطقهم: أنهم في أوّل الأمر يتكلّمون ويعتذرون، وقد ينكرون ما هم عليه من الكفر، ويُقسمون على ذلك، ثم إذا ختم على ألسنتهم وأفواههم، وشهدت عليهم جوارحُهم بما كانوا يكسبون، ورأوا أن الكذب غير مفيد لهم أُخْرِسوا فلم ينطقوا.
وكذلك الإخبار بأن الله تعالى لا يكلّمهم، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، مع أنه أثبت الكلام لهم معه، فالنفي واقع على الكلام الذي يسرّهم، ويجعل لهم نوع اعتبار.
وكذلك النظر والإثبات واقع على الكلام الواقع بين الله وبينهم على وجه التوبيخ لهم والتقريع، فالنفي يدلّ على أن الله ساخط عليهم، غير راضٍ عنهم، والإثبات يوضح أحوالهم، ويبيّن للعباد كمال عدل الله فيهم، إذ هو يضع العقوبة موضعها.
ونظير ذلك: أن في بعض الآيات أخبر أنه {لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَاْنٌ} [الرحمن: 39]، وفي بعضها: أنه يسألهم {مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} [الشعراء: 92] و{مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 65]، ويسألهم عن أعمالهم كلها.
فالسؤال المنفي: هو سؤال الاستعلام والاستفهام عن الأمور المجهولة، فإنه لا حاجة إلى سؤالهم، مع كمال علم الله، واطّلاعه على ظاهرهم وباطنهم وجليل أمورهم ودقيقها.
والسؤال المُثْبَت: واقع على تقريرهم بأعمالهم وتوبيخهم وإظهارِ أن الله حكم فيها بعدله وحكمته.
ومن ذلك: الإخبار في بعض الآيات أنه لا أنساب بين الناس يوم القيامة، وفي بعضها: أثبت لهم ذلك، فالمثبت هو الأمر الواقع والنسب الحاصل بين الناس؛ كقوله: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} [عبس:34، 35] إلى آخرها، والمنفي: هو الانتفاع بها، فإن الكفار يدعون أن أنسابهم تنفعهم يوم القيامة فأخبر تعالى أنه {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88-89].
ونظير ذلك: الإخبار في بعض الآيات: أن النسب نافع يوم القيامة، كما في إلحاق ذرّية المؤمنين بآبائهم في الدرجات، وإن لم يبلغوا منزلتهم، وأن الله يجمع لأهل الجنات والدرجات العالية من صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم، فهذا لما اشتركوا في الإيمان وأصل الصلاح زادهم من فضله وكرمه، من غير أن ينقص من أجور السابقين لهم شيئاً.
ومن ذلك: الشفاعة فإنه أثبتها في عدة مواضع، ونفاها في مواضع من القرآن، وقيدها في بعض المواضع بإذنه ولمن ارتضى من خلقه، فتعيّن حمل المطلق على المقيد، وأنها حيث نفيت فهي الشفاعة بغير إذنه، ولغير من رضي الله قوله وعمله، وحيث أثبتت فهي الشفاعة التي بإذنه لمن رضيه الله وأذن فيه.
ومن ذلك: أن الله أخبر في آيات كثيرة أنه لا يهدي القوم الكافرين والفاسقين والظالمين ونحوها، وفي بعضها: أنه يهديهم ويوفقهم، فتعين حمل المنفيات على من حقت عليه كلمة الله، لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} [يونس: 96، 97]، وحمل المثبتات على من لم تحق عليهم الكلمة[1].
وإنما حقّت كلمة الله بالعذاب والطرد على من ارتكسوا في حمأة التقليد وغرقوا في بحر الغفلة وأبوا أن يستجيبوا لداعي آيات الله الكونية والعلمية {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً} [محمد: 17].
وهذا هو الحق الذي لا ريب فيه.
ومن ذلك: الإخبار في بعض الآيات: أنه العلي الأعلى، وأنه فوق عباده وعلى عرشه، وفي بعضها: أنه مع العباد أينما كانوا، وأنه مع الصابرين والصادقين والمحسنين ونحوهم، فعُلوُّه تعالى أمر ثابت له، وهو من لوازم ذاته.
ودنوه ومعيته لعباده لأنه أقرب إلى كل أحد من حبل الوريد، فهو على عرشه عَليٌّ على خلقه، ومع ذلك فهو معهم في كل أحوالهم، ولا منافاة بين الأمرين؛ لأنّ الله تعالى ليس كمثله شيء في جميع نعوته، وما يتوهم بخلاف ذلك فإنه في حق المخلوقين.
وأما تخصيص المعية بالمحسنين ونحوها، فهي معية أخصّ من المعية العامة، تتضمّن محبتهم وتوفيقهم، وكلاءتهم، وإعانتهم في كل أحوالهم، فحيث وقعت في سياق المدح والثناء فهي من هذا النوع، وحيث وقعت في سياق التحذير والترغيب والترهيب فهي من النوع الأوّل.
ومن ذلك: النهي في كثير من الآيات عن موالاة الكافرين وعن مُوادَّتهم والاتّصال بهم، وفي بعضها الأمر بالإحسان إلى من له حق على الإنسان منهم، ومصاحبته بالمعروف، كالوالدين والجار ونحوهم.
فهذه الآيات العامات من الطرفين، قد وضحها الله غاية التوضيح في قوله {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 8، 9].
فالنهي واقع على التولي والمحبة لأجل الدين، والأمر بالإحسان والبرّ واقع على الإحسان لأجل القرابة أو لأجل الجيرة أو الإنسانية على وجه لا يُخلّ بدين الإنسان.
ومن ذلك: أنه أخبر في بعض الآيات أن الله خلق الأرض ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات، وفي بعضها أنه لما أخبر عن خلق السماوات أخبر أن الأرض بعد ذلك دحاها.
فهذه الآية تفسّر المراد، وأن خلق الأرض متقدم على خلق السماوات، ثم لما خلق الله السماوات بعد ذلك دحا الأرض، فأودع فيها مصالحها المحتاج إليها سكانها.
ومن ذلك: أنه تارة يخبر أنه بكل شيء عليم، وتارة يخبر بتعلّق علمه ببعض أعمال العباد وببعض أحوالهم، وهذا الأخير فيه زيادة معنى، وهو يدل على المجازاة على ذلك العمل، سواء كان خيرًا أو شرًّا، فيتضمن مع إحاطة علمه الترغيب والترهيب.
ومن ذلك: الأمر بالجهاد في آيات كثيرة، وفي بعض الآيات الأمر بكفّ الأيدي، والإخلاد إلى السكون، فهذه حين كان المسلمون ليس لهم قوة، ولا قدرة على الجهاد باليد، والآيات الأخرى حين قووا وصار ذلك عين المصلحة؛ والطريق إلى قمع الأعداء.
ومن ذلك: أنه تارة يضيف الأشياء إلى أسبابها التي وقعت وتقع بها، وتارة يضيفها إلى عموم قدره، وأن جميع الأشياء واقعة بإرادته ومشيئته، فيفيد مجموع الأمرين إثبات التو حيد، وتفرد الباري بإيقاع الأشياء بقدرته ومشيئته، وإثبات الأسباب والمسببَّات، والأمرَ بالمحبوب منها، والنهي عن المكروه، وإباحةَ مستوى الطرفين فيستفيد المؤمن الجد والاجتهاد في الأخذ بالأسباب النافعة وتدقيق النظر وملاحظة فضل الله في كل أحواله، وأن لا يتّكل على نفسه في أمر من الأمور بل يتكل على الله ويستعين بربه.
وقد يخبر أن ما أصاب العبد من حسنة فمن الله، وما أصاب من سيئة فمن نفسه، ليعرف عباده أن الخير والحسنات والمحاب تقع بمحض فضله وجوده، وإن جرت ببعض الأسباب الواقعة من العباد، فإنه هو الذي أنعم بالأسباب وهو الذي يسرها، وأن السيئات وهي المصائب التي تصيب العبد فإنما أسبابها من نفس العبد، وبتقصيره في حقوق ربه، وتعديه لحدوده، فالله وإن كان هو المقدّر لها. فإنه قد أجراها على العبد بما كسبت يداه، ولهذا أمثلة يطول عدها.
(القواعد الحسان لتفسير القرآن 36 – 40، للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي).
[1] قال الشيخ ابن عثيمين: " كلمته الأزلية، يعني الذي قدر عز وجل أنهم في النار فهم لا يؤمنون".