{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}
ما أعظمَ هذه القاعدةَ، وما أحكم هذا الأصلَ العظيمَ الذي نصّ الله نصًا صريحًا على عموم ذلك، وعدم تقيّد هذا الهدى بحالة من الأحوال فكل حالة هي أقوم، في العقائد والأخلاق والأعمال والسياسات الكبار والصغار والصناعات والأعمال الدينية والدنيوية فإن القرآن يهدي إليها ويرشد إليها، ويأمر بها ويحث عليها.
معنى: {أَقْوَمُ}، أيْ أكرم وأنفس وأصلح وأكمل استقامة، وأعظم قيامًا وصلاحًا للأمور.
فأما العقائد فإن عقائد القرآن هي العقائد النافعة التي فيها لصلاح القلوب وحياتها وكمالها، فإنها تملأ القلوب عزة وكرامة بشعورها بالتجرّد من الذل لمخلوق مثلها، وشرفها بتخصّصها لمحبّة الله تعظيمًا له وتألهًا وتعبّدًا وإنابة، وهذا المعنى هو الذي أوجد الله الخلق لأجله.
وأما أخلاقه التي يدعو إليها فإنه يدعو إلى التحلّي بكل خلق جميل، من الصبر والحلم والعفو والأدب وحسن الخلق وجميع مكارم الأخلاق، ويحثّ عليها بكل طريق ويرشد إليها بكل وسيلة. وأما الأعمال الدينية التي يهدي إليها: فهي أحسن الأعمال التي فيها القيام بحقوق الله وحقوق العباد على أكمل الحالات وأجلّها وأسهلها وأوصلها إلى المقاصد.
وأما السياسات الدينية والدنيوية: فهو يرشد إلى سلوك الطرق النافعة في تحصيل المقاصد والمصالح الكلية، وفي دفع المفاسد، ويأمر بالتشاور على ما لم تتّضح مصلحته والعمل بما تقتضيه المصلحة في كل وقت بما يناسب ذلك الوقت والحال. حتى في سياسة الوالد مع أولاده وزوجه وأهله وخادمه وأصحابه ومعامليه، فلا يمكن أنه وجد أو يوجد حالة يتّفق العقلاء أنها أقوم وأصلح من غيرها، إلا القرآن يرشد إليها نصًّا وظاهرًا، أو دخولًا تحت قاعدة من قواعده الكلية. وتفصيل هذا الأصل لا يمكن استيفاؤه في هذه القواعد الإجمالية، فكل التفاصيل الواردة في الكتاب والسنة، وما تقتضيه المصالح تفصيلاً لهذا الأصل المحيط.
وبهذا وغيره تبين لك أنه لا يمكن أن يرد علم صحيح أو معنى نافع أو طريق صلاح ينافي القرآن. والله ولي الإحسان.
(القواعد الحسان لتفسير القرآن 146 – 147، للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي).