title3

 banner3333

 

حانوتي الإيمان (9) الابتعاد عن تأليه الكون – العلماء الأقدمون

الابتعاد عن تأليه الكون – العلماء الأقدمون

      نحتاج بكل الأحوال إلى سبر أعمق في الادّعاء المقدّم من قبل كثير من العلماء بأن الإلحاد ضرورة لازمة لممارسة العلم الطبيعي الحقيقي، فيعتقدون أنّ أيّ حركة لتقديم الله كتفسير للكون عند أي مستوى ستكون حتمًا نهاية العلم الطبيعي؛ فنفترض على سبيل المثال عندما ترعد السماء كما فعل بعض الأقدمين أن الإله يُحدث الصوت، وعندها لن نتحّرى الآلية خلف هذه الضجة ولا نقدر على تحريها، وبافتراض عدم وجود الآلهة فقط يمكننا التحرّر وتحرّي آليات الطبيعة بأسلوب علمي حقيقي: أدخل الآلهة في أي مرحلة وسيتوقف العلم. فالله بالنسبة لهم سبب لتوقف العلم.

      حسنًا، نحن بالتأكيد بحاجة لإزالة التأليه عن قوى الطبيعة لنستطيع بحرية دراسة الطبيعة – وهي خطوة ثورية في التفكير اتّخذت من قبل الفلاسفة الطبيعيين اليونانيين الأقدمين طاليس (Thales)، أناكسيماندر (Anaximander) وأناكسيمينس (Anaximenes) من مدينة ميليتوس (Miletus) قبل 2500 سنة، إذ لم يرضوا التفاسير الخرافية، كالتي كتبها هوميروس وهِسْيود (Homer and Hesiod) في السنة 700 قبل الميلاد تقريبًا، فبحثوا عن تفاسير تعتمد العمليّات الطبيعية وحققوا بعض النجاحات العلمية المميزة.

      وسجل الفضل لطاليس بأنه حدد طول السنة 365 يومًا، وتوقّع بدقة كسوفًا شمسيًا في عام 585 قبل الميلاد، وكذلك استعماله الطرق الهندسية لحساب ارتفاع الأهرامات من ظلالها، وحتى تقدير حجم الأرض والقمر. واخترع أناكسيماندر مزولة ساعة شمسية، وساعة لا تتأثر بالجو ورسم أولى الخرائط للعالم وللنجوم، لذلك كان علماء مدينة ميليتوس من بين العلماء الأوائل.

     وفي هذا السياق تبرز أهمية كبيرة للفيلسوف كزينوفانيس (570 – 478 قبل الميلاد) من مدينة كولوفون (Colophon) (بالقرب من مدينة إزمير في تركيا في الزمن الحالي)، رغم اشتهاره بمحاولاته فهم أهمية أحافير المخلوقات البحرية التي عثر عليها في مالطة (Malta)، فشهرته أكثر لاستنكاره الشديد لرؤية العالم المبنية على الخرافيات. فأشار إلى أن السلوك المنسوب إلى الآلهة يعتبر بين البشر مخجلًا تمامًا: فالآلهة كانوا محتالين ولصوص وزناة، وكان يعتقد حقيقة أن هذه الآلهة لا شكّ أنها من رسم مخيلة الأشخاص الذين يؤمنون بها: فالإثيوبيون لديهم آلهة ذوي بشرة قاتمة وأنوف عريضة، وجعل التراقيّون (Thracians) الآلهة بعيون زرق وشعر أحمر، وأضاف مستهزئًا: "إن كان للبقر والخيل أو الأسود أيدٍ واستطاعت الرسم، فسترسم الخيل الآلهة على هيئة شكل خيل، وسترسم البقر آلهة على شكل بقر، جاعلة أجسام الآلهة شبيهة بأجسامها". لذلك فكزينوفانيس كان يرى أن هذه الآلهة بلا شك مجرّد خيال طفولي صنعته مخيلة خصبة عند من يؤمن بها.

     أما الفيلسوف اليوناني المرموق المتّبع لمذهب الذريّة (atomist) إبيقور (Epicurus) (ولد عام 341 ق.م بعد وفاة أفلاطون (Plato) مباشرة)، والذي منح اسمه للفلسفة الإبيقورية، فقد تمنّى أن يزيل الخرافات من التفسير لنرقى بالفهم: "من الممكن أن تنتج الصواعق بطرق مختلفة عديدة – فقط تأكّد من بقاء الخرافات بعيدة عنها! وستبقى بعيدة إن تابع المرء الظواهر بطريقة صحيحة واتّخذها كعلامات لغير المدرك".

     مثل هذا الإنكار للأوثان، مع العزم على تحرّي العمليّات الطبيعية التي كانت إلى هذه اللحظة تفهم بأنها تقريبًا بشكل شامل نتاج نشاط تلك الآلهة، أوصلا بالنهاية إلى انحدار التفاسير الخرافية للكون وإلى تقدّم العلم.

     لكن كزينوفانيس ليس المفكّر القديم الوحيد الذي انتقد رؤية العالم القائمة على تعدّد الآلهة، بل لم يكن الأوّل وهذا هو الأهمّ، فنبي الله موسى الغير معروف من قبل كزينوفانيس (يفترض هذا – ولا يوجد للأسف الكثير من المعلومات عن الأمر) والموجود قبل قرون كان قد حذّر من عبادة "الآلهة الأخرى، أو الانحناء لها، أو للشمس أو القمر أو النجوم في السماء". ونبي اليهود أرميا (Jeremiah) على سبيل المثال استنكر عام 600 ق.م سخافة تأليه الطبيعة وعبادة الشمس، والقمر والنجوم. وفي هذه النقطة قد نقع بسهولة في خطأ التسرع بالحكم ونعتبر أن التخلّص من الآلهة.

     يحتّم أو يكافئ التخلّص من الخالق، وهذا بعيد، فموسى والأنبياء اعتبروا من السخف الانحناء لمختلف الأشياء من الكون كالشمس، والقمر والنجوم واعتبارها آلهة، لكنهم اعتبروا وبدرجة مماثلة من السخف ألا يؤمن المرء وينحني لله الخالق الذي خلق كل من الكون وأنفسهم، وهنا تجدر ملاحظة أنهم لم يقدموا فكرة حديثة جذريّاً، فلم يضطروا إلى إزالة التأليه عن الكون كما فعل اليونانيّون، للسبب البسيط أنهم لم يؤمنوا بهذه الآلهة في المقام الأول، وما أنقذهم من الخرافة كان إيمانهم بالله الواحد الحق، خالق السموات والأرض، أي: أن الكون الوثني ومتعدّد الآلهة الذي وصفه هوميروس وهسيود لم تكن صورة العالم الأصلية لدى البشرية – وهذا انطباع يكتسب غالبًا من حقيقة بدء معظم الكتب في العلم والفلسفة بذكر اليونان القدماء وتأكّد على أهمية مرحلة رفع التأليه في الكون، ولا تشير إلى حقيقة مفردة بأن اليهود قد احتجوا على التفاسير الوثنية للكون قبل زمن بعيد من زمن اليونانيين، وسهّل هذا إخفاء حقيقة أن تعدد الآلهة كما يقال مثّل انحرافًا عن الاعتقاد الأصلي بالله الخالق الواحد، والواجب تصحيح هذا الانحراف بالعودة إلى الإيمان بالخالق وليس طرح الإيمان به مطلقاً، وهذه بالضبط النقطة التي وضحها ملفن كلافن (Malvin Calvin) فيما ذكر سابقًا ...

     ففكرة أن الإيمان بالله الخالق الذي خلق الكون وحفظه سيؤدي لدفع العلم الطبيعي إلى حتفه فكرة مغلوطة بصراحة، ويمكن القول أنها في الواقع فكرة غريبة في ضوء الدور الذي لعبه هذا الإيمان في نشوء العلم الطبيعي – لأنها لو صحّت ربما لم يظهر العلم الطبيعي مطلقًا، فالاعتقاد بأن محرّك السيارة قد صمّم من قبل السيّد فورد لن يمنع أحدًا من البحث علميًا في عمل المحرّك – بل في الواقع قد يشجّع على القيام بذلك، ولكن وهذا أمر دقيق إن توصّلوا إلى اعتقاد خرافي بأن السيّد فورد هو المحرّك، سيؤدي هذا لتوقف علمهم نهائيًا، هذه القضية الرئيسية: هنالك فرق كبير بين الله والآلهة الوثنية، وبين الله الخالق والإله الذي هو الكون، كما كتب جيمس كلارك ماكسويل (James Clerk Maxwell) على باب مختبر الفيزياء الشهير كافندش (Cavendish Physics) في كامبردج الكلمات التالية: "كم هي عظيمة صنائع الرب؛ يتفكّر بها كل من تنعم بها."

     وبمراجعة تاريخ العلم الطبيعي نجد كل الأسباب لنبدي امتناننا للمفكّرين المتميّزين الذين اتخذوا الخطوة الشجاعة لمسائلة النظرة الخرافية للطبيعة التي منحت مختلف الأمور في الكون قوى إلهية لا تمتلكها، ولقد رأينا بعضهم قام بذلك ليس دون رفض مفهوم الخالق فقط، بل قام بذلك باسم الخالق نفسه، وربما يوجد خطر محدق اليوم لأن بعض العلماء والفلاسفة قد اندفعوا في إطار رغبتهم لإزالة مفهوم الخالق كليًا، وربما بلا إدراك منهم لإعادة تأليه الكون بمنح المادة والطاقة قدرات إبداعية لا يمكن إثبات امتلاكها لها، فنفيهم لوجود الله الخالق الواحد سيؤدي إلى ما وصف بتعدد الآلهة الأقصى – كونٌ يملك كل جسيم فيه قدرات شبيهة بالآلهة.

      عندما ناقشنا حدود العلم الطبيعي قبل قليل أشرنا إلى أن هنالك أسئلة معيّنة لم يجهّز العلم للإجابة عنها، خاصة أسئلة "لماذا" المتعلقة بالغاية كشيء مستقل عن الوظيفة، والآن يجب أن نتناول الأسلوب الذي يحاول فيه العلم الإجابة عن الأسئلة التي تقع ضمن استطاعته.


 [(God's Undertaker (48 – 51].