title3

 banner3333

 

حانوتي الإيمان (6) كعكة العمة ماتيلدا

كعكة العمة ماتيلدا   

     ربما يكون لمثال توضيحي بسيط أن يقنعنا بأن العلم الطبيعي محدود: لنتخيّل أن عمتي ماتيلدا صنعت لنا كعكة جميلة ثم أخذناها ليتمّ تحليلها من قبل مجموعة من أفضل علماء العالم، وباعتباري مسؤول التشريفات سألتهم عن تفسير للكعكة ثم ذهبوا لعملهم، علماء التغذية سيخبروننا عن عدد السعرات الحرارية في الكعكة وأثرها التغذوي. أما علماء الكيمياء الحيوية فسيحيطوننا علمًا عن بنية البروتينات والدسم إلى آخره في كعكة ماتيلدا. أما الكيميائيون فسيحدثوننا عن العناصر التي دخلت في الكعكة وعن كيفية ارتباطها مع بعضها. أما الفيزيائيون فلهم قدرة تحليل الكعكة وفق الجسيمات الأولية. وسيكون دور أهل الرياضيات بلا شكّ عرض مجموعة من المعادلات الأنيقة التي تصف سلوك هذه الجزيئات.

     والآن بعد أن قدّم لنا هؤلاء الخبراء كلّ بمصطلحات اختصاصه أو اختصاصها العلمي وصفًا تنفيذيًا للكعكة، هل يمكننا القول أن الكعكة فسرت تمامًا؟ لقد حصلنا لا ريب على وصف لكيفية صنع الكعكة وكيفية ارتباط عناصرها ببعضها البعض ولنفترض أني سألت هؤلاء الخبراء مجتمعين سؤالًا نهائيًا: لماذا صنعت هذه الكعكة؟ إن الوجوم على وجه العمة ماتيلدا يكشف أنها تعرف الجواب، لأنها هي من صنعت الكعكة، وقد صنعتها لغاية ما، ولكن كل خبراء التغذية، والكيمياء الحيوية، والكيمياء، والفيزياء، والرياضيات في العالم لن يستطيعوا الحصول على جواب للسؤال – ولا يشكّل هذا حرجًا على اختصاصاتهم العلمية أن يعلنوا أنهم غير قادرين على الإجابة عنه. فاختصاصاتهم التي تتقبّل أسئلة حول طبيعة وبنية الكعكة أيّ إجابة أسئلة "كيف" لا يمكنها إجابة أسئلة "لماذا" والتي تتّصل بالغاية التي صنعت من أجلها الكعكة. في الواقع، الفرصة الوحيدة للحصول على جواب ستكون إن كشفت لنا العمة ماتيلدا عن الجواب لنا، ولكن إن لم تخبرنا العمة ماتيلدا بسبب صنع الكعكة، فالحقيقة الواضحة أنّ أيّ قدر من التحليل العلمي لن يسعفنا بمعرفته.

     ولئن قلنا مع برتراند رسل إن العلم الطبيعي لم يخبرنا لماذا صنعت العمة ماتيلدا الكعكة لا يمكننا معرفة لماذا صنعتها فكلام غير صحيح بتاتًا، كل ما علينا فعله أن نذهب ونسألها، فالادّعاء بأن العلم الطبيعي هو الطريق الوحيد للحقيقة ادّعاء لا يليق قوله للعلم الطبيعي بالنهاية، يشير إلى هذا حامل جائزة نوبل سير بيتر ميداوار (Sir Peter Medawar) في كتابه الرائع "نصيحة إلى العالم الشاب"(Advice to a Young Scientist): ((لا يوجد شيء أسرع في التسبّب بالعار للعالم لنفسه أو لمهنته من أن يعلن بطريقة شاملة – وبالأخصّ عندما لا يوجد أيّ داع لهذا الإعلان – بأن العلم الطبيعي يعرف أو سيعرف قريبًا أجوبة كل الأسئلة التي تستحق أن تسأل، وأن الأسئلة التي لا تتطلّب جوابًا علميًا هي بطريقة ما ليست أسئلة أو أسئلة كاذبة يسألها الأغبياء فقط ويدعي السذج أنهم قادرون على إجابتها))، ويتابع بقوله ((إن وجود حدود للعلم الطبيعي شيء واضح من عجزه عن الإجابة على أسئلة من مستوى ما يسأله طلاب الإبتدائي مما يتعلق بأوّل الأشياء وآخرها – أسئلة من نوع: "كيف بدأ كل شيء؟" ، "لماذا نحن كلنا هنا؟"، "ما الغاية من الحياة؟")). ويضيف بأنه يجب أن نلجأ إلى الأدب التخيلي وإلى الدين للحصول على الأجوبة لهذه الأسئلة [Advice to a Young Scientist: 31].

     ويؤكد فرنسيس كولينز مدير معهد الجينوم على هذا: ((العلم الطبيعي لا حيلة له في الإجابة على أسئلة من نوع "لماذا جاء الكون إلى الوجود؟" "ما معنى الوجود الإنساني؟" "ما الذي سيحدث بعد أن نموت؟)). من الواضح أنه لا يوجد أي تنافر بين كون المرء عالما ملتزمًا متحمّسًا في أعلى المستويات وأن يعترف في الوقت نفسه أن العلم لا يمكنه الإجابة على كل سؤال بما في ذلك أعمق الأسئلة التي يسألها البشر.

     ومن الإنصاف أن نقول إن رسل رغم حقيقة كتابته للعبارة العلماوية المتطرّفة التي ذكرناها قبل قليل فقد أشار في أماكن أخرى أنه لا ينتمي إلى هذه العلماوية المتعجرفة، فقد كان يعتقد أن كل المعرفة الدقيقة تنتمي للعلم الطبيعي وهذا يظهر لنا كعلماوية صريحة، لكنه بعد ذلك يقول إن معظم الأسئلة المهمّة تقع خارج مقدرة العلم الطبيعي: ((في عالم مقسوم إلى عقل ومادة، وإن كان كذلك، فما هو العقل وما هي المادة؟ هل العقل خاضع للمادة؟ أم أن له قدرات مستقلة؟ هل للكون وحدة أو غاية؟ هل يسير إلى هدف معين؟ هل هنالك حقيقة قوانين للطبيعية أو أننا نعتقد بها لأن لدينا عشقًا متأصلًا للنظام؟ هل الإنسان هو ما يظهر لرائد فضاء مجرد كتلة ضئيلة من الكربون المشوب مع الماء تزحف بعجز على سطح كوكب صغير وغير مهم؟ أم أنه ما ظهر لهملت؟ هل هنالك طريقة حقيقية فضلى وأخرى سافلة؟ أم أن كل طرق العيش عبثية؟ ... هذه الأسئلة لا أجوبة لها في المختبرات)) [History of Western Philosophy: 13]

     ما نقوله هنا أمر مألوف منذ زمن أرسطو، حيث اشتهر عنه التمييز بين الأسباب الأربعة ، السبب المادي ( المادة التي صنعت منها الكعكة في مثالنا) ، السبب الشكلي (الشكل الذي وضعت به المواد)، السبب الفعلي (عمل الطباخة العمة ماتيلدا)، والسبب النهائي (الغاية التي طبخت الكعكة لأجلها – عيد ميلاد أحدهم). إن السبب الرابع من أسباب أرسطو هو ما يوجد خارج مجال العلم الطبيعي.

     كتب أوستن فارر (Austin Farrar): ((كلّ علم طبيعي يختار منحى من مناحي الأشياء في العالم ويظهر لنا كيف تعمل، وكل شيء يقع خارج هذا المجال يقع خارج مجال هذا العلم الطبيعي، ونظرًا لأن الإله ليس جزءًا من هذا العالم، وبالأحرى ليس أحد مظاهره، لا يمكن لأيّ شيء يقال عن الخالق، مهما كان حقًا، أن يصبح عبارة تنتمي إلى أي نوع من أنواع العلوم الطبيعية)) [A Science of God?: 29].

     بناءً على ما سبق نجد أن عبارات بيتر أتكنز مثل "لا يوجد أي سبب يدعونا لافتراض أن العلم الطبيعي لن يتعامل مع أي منحى من مناحي الوجود" التي اقتبسناها سابقًا، وقوله "لا يوجد شيء لا يمكن فهمه" تبدو خارج هذا المعنى تمامًا.

     من غير المفاجئ أن يدفع أتكنز كلفة عالية لهذا الادّعاء بوصف مطلق الكفاءة للعلم: ((العلم الطبيعي ليس بحاجة إلى غاية، كل الغنى الرائع والجميل في العالم يمكن التعبير عنه باعتباره كومة روث متعفنة مترابطة لا غاية لها)) [Creation Revisted: 127 – 128].

     ويتساءل المرء ماذا تصنع العمة ماتيلدا بالتفسير النهائي لحقيقة أنها صنعت الكعكة لعيد ميلاد ابن أختها جيمي. في الواقع هو التفسير النهائي لماذا وجدت العمة وجيمي وكعكة عيد الميلاد بداية، ربما كانت العمة تفضل الحساء البدئي على كومة الروث المتعفنة لو كان الخيار بيدها.

     إنهما قضيتان مختلفتان، الأولى افتراض أن العلم الطبيعي لا يستطيع تقديم أجوبة على أسئلة تتعلّق بالأسباب النهائية، والمسألة الأخرى المخالفة تمامًا أن نرفض وجود سبب نهائي لكون العلم الطبيعي غير قادر على التعامل معه، ومع ذلك فقد أخذ أتكنز مذهبه المادي ببساطة إلى نتيجته المنطقية، وربما ليست منطقية تمامًا.

     وعلى كل، افتراض كومة الروث يفترض مسبقًا وجود مخلوقات قد أفرغت كومة الروث، وأحرى لنا من افتراض أن البعرة خلقت البعير. هذا وإن كانت كومة روث متعفنة هي الأساس، فإن النظر إلى هذه الفكرة من وجهة القانون الثاني في الديناميكا الحرارية نتساءل كيف يمكن عكس سيرورة الفساد، إن العقل ليحتار في هذا.

      وما يدمّر العلماوية تمامًا هو الخطأ القاتل من التناقض الذاتي اللازم فيها، فلا حاجة لنقد العلماوية بحجة من خارجها: فهي تدمّر نفسها ذاتيًا، فهي تعاني نفس القدر المحتوم للموقف القديم لمبدأ المصادقة في قلب الوضعية المنطقية (Logical Positivism)، لأن عبارة "العلم الطبيعي فقط يمكنه استنتاج الحقيقة" ليست عبارة مستنتجة من العلم الطبيعي، فهي ليست عبارة علمية، ولكنها عبارة تتحدث عن العلم الطبيعي، فهي عبارة فوق العلم الطبيعي (Metascientific) وهكذا فإن كان مبدأ العلماوية الأساسي حقيقياً ، فالعبارة التي تعبر عنها خاطئة، فمذهب العلماوية ينقد ذاته، فهو غير متماسك.

     وبالتالي فرؤية ميداوار بأن العلم الطبيعي محدود لا تشكّل إهانة للعلم الطبيعي، ولكن الحالة المقابلة هي ما يصنع ذلك للعلم الطبيعي، إنهم أولئك العلماء الذين يقدمون ادّعاءات مبالغًا فيها عن العلم الطبيعي هم من يسيئون إليه، فهم بغير قصد وربما بغير وعي قد انتقلوا من  ممارسة العلم الطبيعي إلى صناعة الأساطير، أساطير هشة.

     وقبل أن نترك العمة ماتيلدا يلزمنا أن نلاحظ أن قصتها البسيطة تساعدنا بحلّ إشكال شائع آخر، فقد لاحظنا أن التفكير العلمي لا يمكنه معرفة: لماذا صنعت الكعكة ويجب أن تصرّح العمة بذلك لنا، ولكن هذا لا يعني أن المنطق لا علاقة له بهذه المسألة أو أنه غير فعال، العكس تمامًا هو الصحيح، فلفهم ما تقوله عندما تخبرنا لمن صنعت الكعكة فإن هذا يطلب منا استخدام المنطق، فلو أنها قالت إنها صنعت الكعكة لابن أختها جيمي ونحن نعلم أنه ليس للعمة ماتيلدا ابن أخت بهذا الاسم فعندها سنشكّ بتفسيرها، وإن علمنا أن لها ابن أخت بهذا الاسم فإن تفسيرها سيكون ذو معنى. وبكلمة أخرى المنطق لا يتعارض مع البلاغ، بكلّ بساطة يقدّم تبليغها عن سبب صناعتها الكعكة معلومات للمنطق لا يمكن للمنطق غير المدعوم أن يقيمها، ولكن المنطق ضروري تمامًا لمعالجة تلك المعلومات، والمسألة هنا أن القضايا التي يكون فيها العلم الطبيعي مصدرًا للمعلومة لا يمكننا بشكل تلقائي أن نفترض أن المنطق قد توقّف عن العمل، وأن الدليل لا صلة له بهذا.

     لذلك عندما يدّعي المؤمنون بالخالق أن هنالك ذاتًا خلق الكون كما وأن هذه الذات قد أبلغتنا أن الكون قد خلق، فإن هؤلاء لا يهجرون المنطق والعقلانية والدليل مطلقًا، فهم ببساطة يقولون إن هنالك بعض الأسئلة التي لا يستطيع المنطق غير المدعوم أن يجيب عليها، ولا بد للإجابة عليها من مصدر آخر للمعلومات. وفي هذا الحالة "البلاغ من الله"، لنفهم ونقيم أي منطق هو الأساس، إن هذه الروح هي التي تحدث به فرنسيس بيكون عن وجود كتابين لله؛ كتاب الطبيعية وكتاب الله، وأن المنطق والعقلانية والدليل يعملون على كليهما.


[(God's Undertaker (41 - 44].