حدود التفسير العلمي
العلم الطبيعي قادر على أن يفسّر. وهذا يختزل سر قوة وجمال العلم الطبيعي عند كثير من الناس؛ فالعلم الطبيعي يجعلنا نفهم ما لم نكن نفهمه من قبل. ويعطينا فهمًا عن الطبيعية كما أنه يعطينا قوة للتحكّم بالطبيعة، لكن إلى أيّ حد يستطيع العلم الطبيعي أن يفسّر لنا؟ هل هنالك أيّ حدود؟
البعض يعتقد أنه لا حدود لتفسيرات العلم الطبيعي، فعلى أقصى حد مادي يوجد من يعتقد أن العلم الطبيعي هو الطريق الوحيد للحقيقة ويمكنه على الأقل مبدئيًا أن يفسّر كل شيء، وهذه الرؤية تسمى العلماوية (Scientism) ويقدّم بيتر أتكنز تعبيرًا تقليديًا لهذه الرؤية: ((لا يوجد سبب لافتراض أن العلم الطبيعي لا يمكنه التعامل مع كل مناحي الوجود)) [Nature's Imagination: The Frontiers of Scientific Vision: 125]. وهذا مع بعض التوابع هو روح العلماوية.
بعض الأشخاص - كأتكنز- والذين يعتبرون كل حديث عن الله والدين والتجربة الدينية أمرًا خارج العلم الطبيعي، وليس له حقيقة موضوعية، ويعترفون بالطبع أن كثيرًا من الناس يفكّرون بالله ويكون لديهم عواطف وحتى تأثيرات مادية وأن بعضها قد يكون مفيدًا، ولكن بالنسبة لهم: التفكير في الله يماثل التفكير ببابا نويل في أعياد الميلاد والتنانين والغيلان والجنيات و العفاريت تحت الحديقة.
ويشير دوكنز في مقدّمة كتابه: (وهم الإله) إلى هذه النقطة بإهداء كتابه إلى دوغلاس آدمز باقتباس: ((ألا يكفي أن ترى الحديقة جميلة حتى يكون لديك الاعتقاد بأن هنالك جنيات تحتها؟)).
حقيقة أنك قد تفكّر بالجنيات وتفتن بها أو ترتعب منها لا يعني أنها موجودة، فالعلماء الذين تحدثنا عنهم يسعدهم ترك الناس يستمرون بالتفكير بالله والدين كما يشاؤون طالما أنهم لا يدّعون أن الله له وجود موضوعي، أو أن الاعتقاد الديني يشكّل معرفة، بمعنى أن العلم الطبعي والدين يمكن أن يتعايشا طالما أن الدين لا يدخل في نطاق العلم الطبيعي، لأن العلم الطبيعي وحده فقط يمكن أن يقول لنا ما هو الحقيقي موضوعيًا، وفقط العلم الطبيعي هو من يقدّم المعرفة: الكلمة الأساس أن العلم الطبيعي يتعامل مع الحقيقة والدين لا يتعامل معها.
بعض عناصر هذه الافتراضات والادعاءات مغرقة في الغرابة لدرجة تدفعنا للتعليق المباشر، انظر مثلًا اقتباس دوغلاس آدمز الذي أورده دوكنز، فهو يكشف أوراق اللعبة ويظهر أن دوكنز مدان بارتكاب خطأ افتراض بدائل كاذبة عندما اقترح أنه إما أن الجنيات موجودة أو لا شيء، قد تكون الجنيات أسفل الحديقة مجرّد وهم، ولكن ماذا عن البستاني، بل ماذا عن مالك الحديقة؟ فاحتمال وجودهما لا يمكن ببساطة نفيه – حقيقة معظم الحدائق لهما مالك وبستاني معاً.
ولننظر أيضًا في ادعاء أن العلم الطبيعي فقط قادر على تقديم الحقيقة فلو كان صحيحًا ستكون إعلانًا فوريًا لإلغاء كثير من مناهج المدارس والجامعات، لأن تقييم الفلسفة والأدب والفن ... يقع خارج حدود العلم الطبيعي تمامًا، كيف يمكن للعلم الطبيعي أن يخبرنا بأن قصيدة ما عبقرية أو مجّرد قصيدة سيئة؟ من المؤكد أن هذا لن يتم بقياس طول الكلمات وتواترها في القصائد، وهل يستطيع العلم أن يخبرنا بأن لوحة ما هي قطعة مميزة فنيًا أم مجرّد خربشات لونية متداخلة؟ من المؤكّد أنه لن يستطيع ذلك بعمل تحليل كيميائي للألوان والقماش الذي رسم عليه. وكذلك تعليم الأخلاق يقع خارج حدود العلم الطبيعي أيضًا، فالعلم الطبيعي يقول لك إن أضفت مادة الإستركنين (Strychnine) إلى شراب أحدهم فستقتله، ولكن العلم الطبيعي لا يخبرك إن كان يصح أخلاقيًا أن تدس الإستركنين في شاي جدتك كي تستولي على ممتلكاتها.
بكل الأحوال، يشير المختصون بالمنطق مثل برتراند رسل إلى عبارة أن: ((العلم الطبيعي هو ما يقدّم المعرفة فقط)) كنموذج لتلك العبارات التي تنقض نفسها بنفسها، والشيء المفاجئ تماماً أن برتراند رسل نفسه يبدو متقبلًا لهذه الرؤية المحدّدة عندما كتب: ((إن أي معرفة قابلة للتحصيل يجب أن تحصل عبر الطرق العلمية، وما لا يمكن للعلم الطبيعي أن يكتشفه لا يمكن للإنسان أن يعرفه)) [Religion and Science: 243].
ولكي ندرك التناقض الذاتي في طبيعة هذه العبارة يكفي أن نسأل ببساطة: كيف علم رسل هذا؟ لأن عبارته ذاتها ليست من عبارات العلم الطبيعي فمعرفة أنها حقيقة إذًا (ووفق عبارته نفسها) أمر مجهول – ومع هذا فرسل يعتقد أنها صحيحة.
[(God's Undertaker (39 - 41].