title3

 banner3333

 

حانوتي الإيمان (1)

حانوتي الإيمان (1)

المقدّمة

     لماذا يوجد شيء بدلًا عن لاشيء؟ بسؤال أكثر دقّة لماذا يوجد الكون؟ من أين جاء وإلى أين يسير، إن كان يسير إلى شيء؟ هل الكون هو الحقيقة النهائية التي لا شيء وراءها، أم أن هنالك غيبًا وراءها؟ هل نتساءل مع ريتشارد فاينمان ((Richard Feynman: "ما معنى كل هذا الكون؟" أم أن برتراند رسل (Bertrand Russell) كان محقًّا بقوله "الكون موجود ولا شيء وراءه"؟

     لا تزال هذه الأسئلة تلهم خيال الإنسان بلا توقّف. قدّم لنا العلماء الذين دفعتهم الرغبة بارتقاء ذرى المعرفة الشامخة تفاصيل رائعة عن طبيعة الكون الذي نعيش فيه، فمن أكبر المقاييس التي يعجز الخيال البشري عن تصوّر ضخامتها يبث تلسكوب هبل الفضائي صورًا رائعة للسماوات من مداره فوق الغلاف الجوي للأرض. وفي أصغر المقاييس التي يعجز خيالنا عن تصوّر دقّتها يكشف لنا مجهر المسح النفقي تفاصيل البيولوجيا الجزيئية المعقّدة، لدرجة تكاد لا تصدّق في عالم الأحياء بما في ذلك الجزيئات العملاقة الغنية بالمعلومات والمعامل الفائقة الصغر لصنع البروتين والتي تزري بدقّتها وتعقيدها بالتقنيات البشرية المتقدمة وتجعلها تبدو بدائية بالمقارنة.

     هل نحن والكون بجماله الأخّاذ البادي من مجرّاته إلى الدقّة الأنيقة لتركيبات البيولوجيا مجرّد نتاج قوى غير مدركة تؤثّر في مادة وطاقة لا عقل لها بطريقة غير موجّهة كما يفترض من يسمى بـ"الملحدين الجدد" بقيادة ريتشارد دوكنز؟ هل حياة الإنسان مختزلة بالمحصّلة بواحد من تراكيب عديدة للذرات – احتمال حدوثها ضئيل جدًّا باعترافهم – ولكن ترتيب ما حدث صدفة من تراتيب أخرى كثيرة محتملة؟ هل يحقّ لنا اعتبار أنفسنا كائنًّا مميزًّا بأي وجه من الوجوه طالما بتنا ندرك ليوم أننا نسكن كوكبًا ضئيل الحجم يدور حول نجم عادي على طرف ناء من مجرّة حلزونية تحوي مليارات النجوم المتشابهة، وهي بذاته مجرّد مجرّة مفردة من مليارات المجرات التي تنتشر في سعة الفضاء؟

     بل لننظر في سؤال أعمق؛ يقول البعض: بما أن الخصائص الأساسية للكون الذي نعيش فيه (كمقدار القوى الأساسية في الطبيعة، وعدد أبعاد الزمان والمكان المدركة) هي نتيجة عوامل عشوائية تعمل منذ نشوء الكون فذلك يؤكّد احتمال وجود أكوان أخرى لكل منها بنيته المختلفة جدًّا، وبالتالي قد لا يكون كوننا هو الوجود الكلي، بل مجرّد كون واحد من منظومة واسعة من الأكوان المتوازية التي انفصلت نهائيًا عن بعضها البعض.

     وبعد كل ما ذكرنا لا غرابة في الطرح القائل بأن الإنسان لا أهمية خاصة له تمّيزه في هذا الوجود؟ فحجم البشرية في عالم الأكوان المتعددة سيتناهى إلى الصفر.

     الطرح المذكور لا ريب سيجعل من استرجاع الأيام الأولى للعلم الحديث محبطة نفسيًا، لأننا سنجد آباء العلم الأوائل مثل: بيكون (Bacon)، وغليلو (Galileo)، وكبلر (Kepler)، ونيوتن (Newton)، وماكسويل (Maxwell) على سبيل المثال لا الحصر مؤمنين بوجود خالق حكيم أبدع الكون. ولكنّ الملاحدة الجدد اليوم يقولون إن العلم قد تجاوز هذا التفكير الساذج وحصر قضية الإيمان بالله في الزاوية، ثمّ قتل الإيمان ودفنه تحت تفسيرات العلم المفحمة؛ فأهمية الخالق عندهم لا تعدو أهمية ابتسامة على وجه شخصية رسوم متحركة ... وأن تفصيل المسيرة السابقة التي أدّت إلى هذه النتيجة تؤكّد أن محاولة إقحام الإيمان مجددًا في العلم قد يعطّل تقدّمه، واليوم ترى بلا أي شك أن المذهب الطبيعي (Naturalism) – الرؤية القائلة بأن الطبيعة هي كل الوجود الممكن ولا غيب وراءها – قد أصبحت له الكلمة العليا.

     رغم إقرار بيتر أتكنز (Peter Atkins) - أستاذ الكيمياء في أوكسفورد - بدور العامل الديني في تاريخ نشوء العلم الحديث فقد دافع عن رؤية المذهب الطبيعي بحماس منقطع النظير إذ قال: "نشأ العلم من الدين كنظام معتقدات أسّس بأسلوب موثّق على معرفة عامة ومشتركة قابلة لإعادة الكشف، وبعد أن ترك العلم سيارته الكبيرة وركب الفراشة بقي معه أساس المعرفة، ولا يوجد شيء يدفعنا لافتراض أن العلم سيعجز عن التعامل مع أي شيء في الوجود، إنهم المؤمنون – المغرضون منهم والجاهلون أيضًا – فقط من يتمنى بقاء زاوية مظلمة في الكون الفيزيائي أو في الكون المدرك لا نستطيع إنارتها بالعلم مطلقًا. لكنّ العلم لا يوقفه شيء، والتشاؤم عند العلماء والخوف عند المتدينين هو الشيء الوحيد الذي يدفع للافتراض بأن الرؤية الاختزالية ستفشل" [The Limitless Power of Science in Nature's Imagination – The Frontiers of Scientific Vision: 125].

     أقيم مؤتمر معهد سالك في "لا جولا" في كاليفورنيا عام  2006 تحت عنوان "ما بعد الإيمان: العلم والدين والمنطق والبقاء" وفي المؤتمر صرح ستفن واينبرغر (Stephen Weinberg) - الحاصل على جائزة نوبل - في معرض تأكيده فكرة استغناء العلم عن الإيمان: "يجب أن يستيقظ العالم من كابوس الدين الطويل ... ويجب علينا نحن العلماء أن نبذل ما في وسعنا لإضعاف قوة الإيمان، ولعلّها ستكون أكبر مساهمة منا في بناء الحضارة". ولن نستغرب بالطبع أن يقوم ريتشارد دوكنز (Richard Dawkins) فيزاود على هذا الكلام ويقول: "لقد سئمت جدًّا من الاحترام الذي يقودنا إليه غسيل أدمغتنا لنسبغه على الإيمان".

     وسنجد الكثير والكثير من هذه المواقف ... ولكن ما الحقيقة؟ هل قدر لكل المتدينين أن يكونوا إما جهلة أو مغرضين؟ أليس بعض المتدينين علماء حصل بعضهم على جوائز نوبل؟ هل يضع المؤمنون آمالهم على إيجاد ثغرة مظلمة في الكون يعجز العلم أبدًّا عن كشف ظلمتها وتنويرها؟ لا شك أن هذا الوصف للمؤمنين خاطئ تمامًا، كما أنه وصف ظالم أيضًا بحق الرواد الأوائل من آباء العلم أمثال كبلر (Kepler) الذي أعلنها صراحة أن إيمانه بخالق للكون قد دفع عمله العلمي إلى آفاق بعيدة؛ فإنارة تلك الزوايا المظلمة في الكون بالعلم هو ما يظهر بالدليل الدامغ قدرة الله وعلمه.

     ولننظر في مسألة أخرى الغلاف الحيوي للأرض، هل تركيبه المعقّد للغاية يبدو "ظاهريًا" أنه مصمّم كما يعتقد ريتشارد دوكنز (Richard Dawkins) حليف بيتر أتكنز (Peter Atkins) الراسخ في إيمانهما؟ وهل من المعقول أن ينشأ الوعي من عمليات طبيعية غير موجّهة تعمل في حدود قوانين طبيعية على مواد الكون بطريقة عشوائية ما؟ هل تحلّ قضية العقل والجسد بافتراض بسيط أن العقل الواعي "نشآ" من الجسد غير الواعي عبر عمليات غير واعية وغير موجهة؟

     لا تزول تلك التساؤلات المرتبطة بهذه الرواية الطبيعية بسهولة كما يظهر مستوى الاهتمام العام من الجمهور؟ فهل تبنّي المذهب الطبيعي أمر لازم للعلم حقيقة؟ أم أننا ندرك تمامًا أن المذهب الطبيعي هو موقف فلسفي أُقحم على العلم الحديث وليس من متطلّباته؟ ألا ترى أن القضية أقرب إلى الإيمان الديني وتظهر حقيقتها فيما لو تجرأ أحد ما وطرح السؤال؟ فالمرء يحجم حتى عن مجرّد التفكير في السؤال، لأن أسلوب معاملة من تجرؤوا على طرح هذه الأسئلة تذكّرنا بمعاملة الهراطقة في العصر القديم فالعلماء الذين يطرحون هذه القضية اليوم يمارسون عملًا استشهاديًا سيكلّفهم توقّف المنح المالية لأبحاثهم كنتيجة.

     اشتهرت مقولة لأرسطو بأنه يجب أن نسأل الأسئلة الصحيحة لكي ننجح، ولكن بعض الأسئلة يشكّل طرحها مخاطرة كبيرة وأشدّ خطرًا منها السعي للإجابة عنها. لكن ركوب هذا الخطر متّسق مع روح العلم وغايته، وتاريخيًا لا جدل عن هذا الأمر بالذات؛ فقد احتاج العلم في العصور الوسطى على سبيل المثال أن يتحرّر من سطوة بعض طروحات فلسفة أرسطو قبل أن ينهض وينطلق، وكان من تعاليم أرسطو أن القمر وما وراءه مجال الكمال، وبالتالي تكون الحركة المثالية من وجهة نظر أرسطو هي الدائرة وجوبًا فتدور الكواكب والنجوم بفلك من دوائر كاملة، أما ما دون القمر فحركته خطية وبالتالي غير مثالية، وقد سيطرت هذه الرؤية لعدة قرون حتى أتى غاليلو (Galileo) ونظر عبر تلسكوبه إلى القمر ورأى الحواف الخشنة للفوهات القمرية، وهكذا شهد الكون ومن شهادته تبين أن جزءًا مما استدل به أرسطو من المفاهيم الأولية للكمال أمسى نظرة بالية.

     وبقي غاليلو مفتونًا بدوائر أرسطو فيقول: "لحفظ النظام المثالي في أجزاء الكون لا بدّ أن تتحرك أجزاؤه المتحركة دائريًا فقط".

    ولكن حتى هذه الدوائر اتّضح أنها غير صحيحة لاحقًا، فقد رأى كبلر (Kepler) من واجبه اتّخاذ خطوة جريئة واقتراح أن الملاحظات الفلكية قيمتها كدليل أهمّ من الحسابات التي تبنّى على مفهوم أولي يقول إن الكواكب يجب أن يكون فلكها دائريًا. وقد طرح هذا الفرض بناء على تحليله للملاحظات الدقيقة والمباشرة التي قام بها سلفه عالم الرياضيات الامبراطوري في براغ تيخو براهي (Tycho Brahe)، وبقية القصة كما يقال صارت تاريخًا.

    ووضع كبلر أقوى فرض علمي في وقته؛ الكواكب تدور في مدارات من قطوع ناقصة أو إهليلجية لها نفس القدر من "الكمال" بحيث تكون الشمس في أحد محرقيها، وهي الرؤية التي وضحها نيوتن (Newton) بعبقريته لاحقًا في نظرية التجاذب الثقالي المتناسب عكسًا مع مربّع المسافة، فاختزلت نظرية نيوتن (Newton)كل التطوّرات السابقة في معادلة صغيرة وأنيقة لدرجة مذهلة، وهكذا قام كبلر (Kepler) بتغيير وجه العلم نهائيًا عندما حرّره من قيود فلسفية قاصرة أعاقت تقدّمه لعدة قرون، ولعلها جرأة بالغة أن نفترض عدم حاجتنا لمثل هذه الخطوة التحريرية المهمة مرة أخرى.

    ويردّ علماء مثل: دوكنز (Dawkins) وأتكنز (Atkins) على هذه النقطة أنه في زمن غاليلو (Galileo) وكبلر (Kepler) ونيوتن (Newton) انطلق العلم بقوّة هائلة، ولا يوجد أيّ دليل على أن فلسفة المذهب الطبيعي التي ترتبط حاليًا بالعلم ارتباطًا وثيقًا (على الأقل في عقول بعض الناس) ستكون قاصرة يومًا ما، بل إن المذهب الطبيعي يفيد العلم حقًّا حسب رأيهم، لأنه يتيح له اليوم التقدّم دون عوائق مثل العبء الديني الذي طالما أخرّه في الماضي. ويحاجج هؤلاء بأنّ أهمّ منفعة للمذهب الطبيعي في أنه لا يعيق تقدّم العلم لسبب بسيط هو أن المذهب الطبيعي يؤمن بأفضلية المنهج العلمي، فهو الفلسفة الوحيدة المتوافقة تمامًا مع العلم وفق تعريفها أساسًا.

    ولكن ما حقيقة هذا الادّعاء؟ لا ريب أن غاليلو (Galileo) رأى بأن فلسفة أرسطو معيقة للعلم بافتراضها أولوية تقدّم وصفًا ملزمًا للكون، لكن غاليلو (Galileo) ومثله نيوتن (Newton) وكذلك معظم آباء العلم الأوائل العظام الذين ساهموا بالنهضة الكبيرة للعلم وقتئذ لم يجد أيًّا منهم أن الإيمان بالله خالقًا للكون يعيق عملهم بأيّ درجة من الدرجات، بل إنهم رأوا الإيمان بالله محفزًّا إيجابيًا لعملهم العلمي في الواقع اعتبر كثير منهم الإيمان بالله دافعه الرئيس للمضي في البحث العلمي؛ فإن كانت هذه هي الحقيقة فما نشاهده من حماس إلحادي مفرط عند بعض الكتّاب المعاصرين يدفعنا للتساؤل: لماذا يقتنعون بأن الإلحاد هو الموقف الفكري الصحيح؟ وهل هو صحيح الادّعاء بأن كلّ ما يقدّمه العلم يدعم الإلحاد؟ وهل العلم والإلحاد مقترنان بطبعهما؟

 

(God's Undertaker: Has Science Buried God: 7 - 10)

لجون لينوكس – بروفسور الرياضيات في جامعة أكسفورد -