النماذج الإرشادية والحقيقة المطلقة
يجب أن يكون واضحًا من خلال هذه النقطة أنّ الطبيعة الانتقالية للحقيقة العلمية، التي وُثِّقت في الفصل السابق، قد شُرحت باستفاضة في كتاب توماس كون بنية الثورات العلمية.
يمكن نمذجة التحولات في مفهومنا عن الكون والتي تبعت عمل بطليموس، وكوبرنيكوس، ونيوتن، وأينشتاين تحت مصطلح تغير النموذج الإرشادي، لكن يمكن القول إنّ كل نموذج إرشادي أقوى من سلفه. توضّح هذه الرؤية أنّه رغم عدم تمثيل أيّ من هذه النماذج الإرشادية للحقيقة المطلقة، فإن العلماء على الأقل يتقدّمون بالاتجاه الصحيح – يقترب كل نموذج إرشادي قليلًا من الحقيقة. قال كون بطريقة أخرى: " ربّما يجب علينا، لنكون أكثر دقّة، التخلّي عن فكرة، صراحةً أو ضمنًا، جعل تغيّرات النموذج الإرشادي العلماء والمتعلمين أكثر قربًا إلى الحقيقة"[The Structure of Scientific Revolutions: 170]. يبدو أنّ كون اتّخذ ذلك الوضع لثلاثة أسباب:
فيما يتعلّق بفشل النموذج الإرشادي، يعتقد معظم الأكاديميين أنّ التقدّم العلمي يحدث بتراكم تدريجي للمعرفة والحقائق. اعترف كون أنّ مثل ذلك النمو يحدث "ضمن" النموذج الإرشادي. في الواقع، فإنّه وصف العلم القياسي كفترة "تطهير" أو "حل أحجيات" (1970، 24 ،36). حلّ الباحثون، أثناء فترة العلم القياسي، تدريجيًا العديد من المشاكل التي يطرحها النموذج الإرشادي الجديد في بدايته. أظهر كون، مع ذلك، أيضاً أنّ أهم أحداث تاريخ العلم – الثورات العلمية - لم تنتج عن طريق تراكم الحقائق ولكن عن طريق الفشل المحتوم للنموذج الإرشادي في شرح الشذوذات التي تراكمت أيضاً خلال مسار البحث العلمي القياسي. لهذا، في التحليل النهائي، لم تنتج الثورات العلمية والنماذج الإرشادية الجديدة التي أنتجتها من التقدّم في فهمنا للحقيقة. عندما ينهار النموذج الإرشادي السابق، يجب على العلماء أن يعيدوا بناءه من الألف إلى الياء. ووفقاً للكون، ربما لا يقترب النموذج الإرشادي الجديد من الحقيقة أكثر من النموذج القديم، بل ربما يكون أبعد، إنّ السبب الوحيد لاختيار نموذج إرشادي جديد محدد هو مدى قدرته على شرح الشذوذات.
بخصوص الأجندات العلمية المختلفة، بمجرّد أن تصبح القوة التفسيرية لنموذج إرشادي مُنهكة بقدر كبير، يتخلّى عنها العلماء ببساطة. ومن ثمّ يتمّ اختيار نموذج إرشادي جديد في المقام الأوّل على أساس قدرته على تقديم تفسيرات مناسبة للشذوذات التي عجز عن شرحها النموذج الإرشادي القديم.
بناءً على ذلك، غالبًا ما يحمل النموذج الإرشادي الجديد تشابهًا ضئيلًا مع النموذج الإرشادي القديم. وإنّ العديد من المشاكل والحلول التي كانت مركز الأهمية في النموذج الإرشادي القديم رُبما تُصبح بلا صلة بالنموذج الجديد. على سبيل المثال، أفلاك التدوير في رؤية بطليموس للكون (أفلاك التدوير: مسارات دائرية متداخلة يسير فيها الكوكب).
حُفظت من قبل كوبرنيكوس ولكن تخلّى عنها نيوتن. لهذا، عندما يُبنى نموذج إرشادي جديد على بُنية نموذج إرشادي سابق، فإنه غالبًا لن يستمر، وبدلاً من تمثيل زيادة الكمّية النوعية في المعرفة، لا تعدّ النماذج الإرشادية الجديدة غالباً أكثر قليلاً من تحولات في المنظور. يمكن مقارنة العملية بميدان البيسبول القديم المحاط بسياج خشبي. يستطيع الناس الذين لم يتمكنوا من شراء تذكرة لدخول الميدان مشاهدة المباراة من خلال الثقوب في السياج. يعطي كل ثقب رؤية مختلفة لميدان اللعب. حيث يعطي الثقب في الجهة اليسرى من السياج رؤية جيدة للاعب الميدان الأيسر والقاعدة الثالثة، لكن ربما يكون منتصف الميدان خارج عن الرؤية تمامًا. يؤمن كل ثقب في السياج للمشاهد منظوراً مختلفاً للمباراة. وإنّ النماذج الإرشادية تشبه إلى حد ما هذه الثقوب حيث يعطي كل واحد منها رؤية محدودة للكون، و ليس الصورة الكاملة. ولعلّ القيمة الأساسية للنموذج الإرشادي الجديد توفيره رؤى جديدة للمشاكل التي أصبحت محط الاهتمام العلمي.
في النهاية، بالإضافة للمشكلتين السابقتين، رفض كون أيضًا الاعتقاد بأنّ تغيّر النموذج الإرشادي يقربنا للحقيقة أكثر. واتخذ هذا الموقف بسبب الآثار الغائية لمثل ذلك الاعتقاد. تعتمد الغائية على فكرة هدف الطبيعة أو التصميم فيها. تبعاً لهذه العقيدة، إنّ لكل شيء موجود سبب. وبعبارة أخرى، يملك الكون معنى لأنه لم يأتي للوجود بالصدفة ولكن بالتصميم. كما دوّن كون، حتى ما قبل التطوّر الدارويني آمن المنظرون (واضعو نظريات التطور الدارويني) أنّ التطوّر عملية موجّهة، وتتوّج في نهاية المطاف بظهور البشرية. آمن شارلز داروين (1809-1882)، الرافض لأي برهان غائي للتطوّر، بأنّ التطوّر محكوم بالصدفة فقط. واقترح كون أنّ التطور الدارويني يعطي نموذجًا جيّدًا لتطوّر معرفة الإنسان: لا ينبغي أن نقلق بخصوص اتّجاه تحرك العلم أقرب إلى الحقيقة لأنه ليس هناك حقيقة مطلقة:
هل يساعد حقاً تخيل وجود تفسير صحيح كامل وموضوعي للطبيعة وأن الإجراء الملائم للإنجاز العلمي يكمن في مدى اقترابنا من الهدف النهائي؟ إن أمكننا استبدال التطور مما نعرف إلى التطور في ما نأمل أن نعرف، ربما تختفي عديد من المشاكل المحيرة في العملية. [The Structure of Scientific Revolutions: 171]
إنّ فكرة كون، أنّ النماذج الإرشادية الجديدة لا تعكس بالضرورة التطورات الفعلية مما نعرف تزعج تماماً العديد من العلماء. أجبرت التغيّرات السريعة التي تحدث في المعرفة العلمية معظم العلماء على الاعتراف بأنّ النظريات العلمية الحالية نظريات انتقالية، ويقدّمون العزاء للاعتقاد بأن العلم على الأقل يتقدّم نحو الحقيقة. وفقًا لكون فحتى هذا الاعتقاد قد يكون مخادعًا. ولذلك في حين يكنّ بعض العلماء لكون فائق الاحترام وينظرون إليه كرسول، ينظر البعض الآخر إلى عمله أنه مجرّد هرطقة ويدينونه باعتباره "خائنًا للحقيقة" [Theocharis and Psimopoulos: 597].
بسبب الانطلاق الحثيث للبحث العلمي في النصف الثاني من القرن العشرين، تتسارع المعرفة العلمية في تيار سريع، وأدّى هذا الوضع بكثير من العلماء إلى إدراك أن الحقيقة العلمية لا يمكن أن تعادل الحقيقة المطلقة. في أحسن الأحوال، تعدّ الحقيقة العلمية جزء فقط من الحقيقة – وفي بعض الأحيان، ليست كذلك حتى. يشكّل العلم في نهاية المطاف طريقة للبحث عن الحقيقة باستعمال الطريقة العلمية في تشكيل النظرية واختبار الفرضية. وبالتالي، يتمّ العمل العلمي بكونك مبدعًا وليس بالضرورة بكونك صائبًا. تكمن الغاية الكلية لاختبار النظريات في إزالة تلك النظريات الخاطئة وغير الكافية. ويلزم العملية أن تنتج نظرية تتحمل اختبار الزمن. وفي النهاية تستبدل كل النظريات العلمية بنظريات أحسن أو مختلفة عنها. والركود يعني حقيقة التوقّف عن التعلّم في العلم ...
ودفع الاعتراف بالتغيّر الدائم للحقيقة العلمية مؤرّخي العلم مثل توماس كون ليوثّق كيف يتحرّك العلم من نموذج إرشادي إلى نموذج إرشادي آخر عبر ثورات علمية دورية. لكن كلّ نموذج إرشادي علمي جديد والنظريات التي يحتويها لا يمثّل الحقيقة المطلقة، بل مجموعة مكونة داخليًا من النظريات التي تحاول تفسير جوانب محدّدة من الكون الفيزيائي. بالتالي لا يمكن للمعرفة العلمية أن تعادل الحقيقة المطلقة. في أحسن الأحوال، تكون المعرفة العلمية حقيقة جزئية فقط.
(The Limitations of Scientific Knowledge: 43 - 47)
للدكتور نيجل بروش – عالم الجيولوجيا الأمريكي -.