ثلاثة طرق للحقيقة
كيف نعرف الحقيقة؟ إنه سؤال آخر قديم كافحت البشرية لتجيب عنه، إن ما نعتقد عادةً بصحته وما هو صحيح حقيقة، غالبًا ما يكونا متفاوتين تمامًا، وإن استطعنا فقط معرفة الحقيقة - فيما يتعلّق بصحتنا وحبّنا ومواردنا المالية وقدرنا الأبدي - فتأمّل كيف ستختلف حياتنا! إذ غالبًا ما تتوقّف سعادتنا وبقاؤنا بقدرتنا على إيجاد الحقيقة؛ فالحقيقة هي المحرِّر العظيم، فهي تستطيع حقًّا أن تجعلنا أحرارًا.
سعى البشر خلال العصور لإيجاد الحقيقة عبر ثلاثة طرق رئيسية: الدين والفلسفة والعلم، ومن بين هذه المجالات الثلاثة نجد أن الدين أقدمها والعلم أحدثها، وغالبًا ما يُرجع الفلاسفة أصل منهجهم إلى طاليس (أو تالس) (Thales) (624-546 ق.م)، والعلماء يرجعون منهجهم إلى أرسطوAristotle) ) (384-322 ق.م).
وبعكس الفلسفة والعلم، كان للدين حصة يومية من حياة الخبرة البشرية لمدة آلاف السنين قبل ولادة طاليس أو أرسطو. ولكلٍّ من هذه المجالات الثلاثة من الدين والفلسفة والعلم منهجيته الفريدة لاكتشاف الحقيقة.
يبدأ البحث عن الحقيقة بإدراك وجود مستويات أعمق للواقع من العالَم الذي ندركه في نشاطاتنا اليومية، فالحقيقة ليست مظهرًا سطحيًا، وليست ملقاة على الأرض تنتظر أي شخص ليلتقطها. وحسب ما كتب ستامبف ((Stumpf لنجد الحقيقة يجب علينا غالبًا أن نسبر تحت سطح المظاهر الخارجية لنجد الواقع الأعمق:
"ما هي حقيقة الأشياء؟" و"كيف يمكننا شرح عملية التغيير في الأشياء؟" إنَّ ما حفز طرح هذه الأسئلة هو الإدراك التدريجي لفكرة أن الأشياء ليست كما تبدو تماماً، وأن "المظهر" يختلف دوماً عن "الحقيقة". (Philosophy: History and Problems: 3)
تطلب الأديان معرفة هذه "الحقيقة الأعمق" عن طريق الوحي الغيبي، لذلك فالدين، بالتعريف، الاعتقاد بأن الحقيقة المطلقة تكمن في عالم وراء الطبيعة أي يوجد خارج الكون الطبيعي، وأن الأحداث المرئية في العالم الطبيعي تحدث بسبب الأحداث غير المرئية التي تقع في العالم فوق الطبيعي، ولأن هذا العالم الأخير "خارق " (فوق وخارج الطبيعي) فهو يقع بعيدًا عن متناول البشرية التي تعيش في العالم المادي، لا نستطيع استخدام حواسنا للإمساك بما فوق الطبيعي، ولا يمكننا استخدام أدواتنا العلمية لدراسته، والطريقة الوحيدة لاكتساب معلومات دقيقة عن العالم فوق الطبيعي أن تختار كائنات من ذلك العالم أن تكشف لنا عن نفسها.
بهذا المعنى، يبدو البشر كأناس لا يملكون قاربًا ويعيشون في جزيرة صغيرة وسط المحيط الهادي، قد يوجد عالم كامل وراء شاطئ جزيرتهم الصغيرة. إلا أن هؤلاء الناس الذين لا قارب لهم لن يعرفوا شيئًا عن هذا العالم مالم يأتِ أحد من العالم الأوسع ليزور جزيرتهم ويخبرهم عنه، لذلك فإن حقيقة الدين بالنهاية مأخوذة من الوحي فوق الطبيعي ...
وبمقابل الدين، يحاول العلم القبض على الحقيقة عبر العالم الطبيعي أي الكون المادي، فبدلًا من البحث عن الوحي في العالم فوق الطبيعي يحصر العلماء بحثهم عن الحقيقة في العالم المرئي. ولأن العالم فوق الطبيعي بالتعريف، يقع خلف العالم الحقيقي فلا يمكن زيارته، قياسه، رسم خريطته، أو تحديد كميته.
ويجادل الكثير من العلماء بأن عالم الغيب غير موجود. فعلى سبيل المثال؛ قال عالم الفلك الشهير كارل ساجان (Carl Sagan) (1934-1996) مرة: "الكون هو كل ما هو كائن أو كان موجودًا أو سيوجد على الإطلاق" (Cosmos: 4). إن كان هذا الاعتقاد صحيحًا، فينبغي أن تستقرّ كل الحقائق في العالم المرئي بالتأكيد ...
تعتمد الطريقة العلمية في إدراك الحقيقة على حواس الإنسان الخمس: الرؤية، والسمع، والشم، واللمس، والتذوّق. حاول العلماء أن يعرفوا الكون عبر (1) استخدام حواسهم لتكوين ملاحظات تجريبية عن الكون و(2) وضع فرضيات تفسّر هذه الملاحظات و(3) اختبار وتصفية هذه الفرضيات عبر مزيد من الملاحظات التجريبية. وتعتبر الفرضيات المتحقّق منها مرارًا عبر الملاحظات الفيزيائية بمثابة قانونٍ علمي. وتمثّل القوانين العلمية بدورها أجزاءًا من الحقيقة المطلقة النهائية. ويؤمن عدد من العلماء بأنه عندما تفسّر القوانين العلمية الكون المادي في مجمله - بما في ذلك بدايته ونهايته- ستكون قد تحققت الحقيقة المطلقة أخيرًا.
يبحث كلًا من العلم والدين عن الحقيقة عبر مصادر خارجة عن العقل البشري، سواء تلك المصادر في العالم الطبيعي أو عالم فوق طبيعي على التوالي. من ناحية أخرى تبحث الفلسفة عن الحقيقة ضمن استيعاب العقل البشري. ورغم أنّ الفلسفة تقتبس من العلم والدين، إلّا أنّ تركيز الفلسفة ومنهجيتها مختلفة تمامًا. فكما شرح برتراند رسل (Bertrand Russell) ذات مرة (1872 – 1970)؛ "يوجد بين اللاهوت والعلم أرض عازلة معرَّضة للهجوم من كلا الجانبين؛ هذه الأرض العازلة هي الفلسفة" (A History of Western Philosophy: xiii)، يبحث الفلاسفة عن الحقيقة اعتمادًا على الاستدلال العقلي عوضًا عن الوحي أو الملاحظات التجريبية: "يعرض تاريخ الفلسفة بحث الإنسان عن الحقيقة بطريقة الاستدلال المنطقي" (Copleston, 1:6).
لم يهتم معظم الفلاسفة بمصدر الأفكار الجديدة على الإطلاق؛ فقد يكون الوحي أو الملاحظة التجريبية أو حتى الأحلام اليومية مصادر مثمرة متساوية في الرؤية الإبداعية. بل ركّز الفلاسفة دائمًا على اختبار هذه الأفكار لتحديد فيما إذا كانت منطقية أم غير منطقية، عقلانية أم غير عقلانية، صحيحة أم خاطئة.
ابتكر الفلاسفة أدوات متنوّعة لاختبار دقيق لمعتقداتهم وفرضياتهم، تتضمّن هذه الأدوات الطرق الاستنتاجية والاستقرائية، والاقتراحات التصنيفية، والقياس المنطقي، وتصنيف للمغالطات الصورية وغير الصورية، وتحديد الكميات ونظرية الاحتمال.
ويأمل الفلاسفة باستخدام هذه التقنيات أن يختبروا نقاوة فكر الإنسان وعقلانيته ويغربلوا الحقيقة من الخيال كما تُغربل الحبوب من التبن والوصول في النهاية إلى الحقيقة المطلقة.
كتب بوبكين (Popkin) أن "الفلسفة" "محاولة تقديم تفسير لما هو صحيح، وما هو هام على أساس تقدير عقلاني للأدلة والحجج بدلًا عن الأساطير والتقاليد والتأكيدات المبالغ بها والكلام الشفهي والعادات المحلية والتعصب المجرد" (Introduction to Origins of Western Philosophical Thinking: 1)
وبسبب اهتمام الفلاسفة بالمنطق والتفكير العقلاني، فيستفاد منهم تمامًا في تحري عيوب المنهج العلمي. ولذلك رغم تركيز هذا الكتاب الحالي على حدود الحقيقة العلمية فيجب تضمين اعتبارات فلسفية. ويفيد أحد حقول الفلسفة الفرعية تحديدًا في اختبار الطريقة العلمية، ألا وهو نظرية المعرفEpistemology) ) والذي يدرس طبيعة وأسس المعرفة أي كيف نعرف ما نعرفه. اكتُشفت الكثير من حدود الحقيقة العلمية التي نوقشت في هذا الكتاب بدايةً من قبل فلاسفة وعلماء يعملون في حقل نظرية المعرفة العلمية. ونجد في الواقع أن بعض أقوى التهم الموجهة ضد تفوق الحقيقة العلمية قدّمها فلاسفة العلم أمثال هيوم (Hume) ، وكون Kuhn) ) وبوبر (Popper) ولاكتوش (Lakatos) وفييرابيند ((Feyerabend.
ولذلك رغم أنّ الفلسفة والعلم والدين تقدّم طرقًا مختلفةً للبحث عن الحقيق، فغالبًا ما تقاطعت طرقها. وعلاوةً على ذلك قد تستخدم طرق ورؤى مجال ما لانتقاد أو دعم أو الهجوم على نظريات وفرضيات من مجال آخر.
(The Limitations of Scientific Knowledge: 15 - 18 )
للدكتور نيجل بروش – عالم الجيولوجيا الأمريكي -.