نقد موقف ريتشارد دوكينز من الصدفة (4)
ما الذي نحتاجه للتغلّب على احتمالات واحد إلى مليار؟ شهدنا في الفصل السابق إيمان دوكينز المبهم بالصدفة. نقرُّ بأنّ هذا الإيمان شوّه حكمه على أهم القضايا العلمية والأسئلة المتعلقة بوجود الرب. يفضّل دوكينز الإيمان بأيّ شيء على أن يقتنع بالمنطق ليقرّ بوجود قضية علمية قوية تثبت وجود سبب حكيم للطبيعة. سيرضى دوكينز بأي معجزة هي أمر مادي، طالما أنّها ليست بمعجزة روحية حقيقية. لكن بفعل ذلك، كما سنرى، انتهك دوكينز مقولتنا العقلانية: "لا يوجد حدث أكثر إعجازًا من المعجزة التي تبحث عن عدم التصديق بها بحيث يمكن استخدامها كسبب لرفض إمكانية حدوث المعجزة حقًا".
تخصّصُ دوكينز الرئيس هو بالبيولوجيا التطوريّة، ويعتقد أنه باستطاعة الانتقاء الطبيعي فعل أيّ شيء بمجرّد بدئه بالعمل. هذا يعني، عندما يتوفّر في المكان بعض أنواع الكائنات الحية، مهما كانت بسيطة، يستطيع الانتقاء الطبيعي نسخ مخزون الحمض النووي للكائن الحي وتمريره. "بما أنّ العنصر العيوش (الحي) [نوع من الجزيئات المورثية] موجود، تستطيع نظرية الانتقاء الطبيعي لدارون أن تعمل، وأن تَظهر الحياة المعقدة كتسلسل نهائي للحمض النووي"[1]. سنتجاهل هذه النقطة سواء كانت الثقة المطلقة بقوى نظرية الانتقاء الطبيعي الداروينية مبررة أم لا.
أولًا، حتى وإن أقرّ دوكينز بأنّ الوصول إلى النقطة التي يستطيع التطوّر أن ينطلق منها ليست مسألة سهلة، فكم علينا أن نرجع قبل التطوّر إلى الوراء؟ لأجل أن نبحث بحجة دوكينز، نحتاج أن نرجع إلى بداية الكون، حتى قبل أن توجد العضوية، حيث كان هناك الكيمياء فقط. وإذا تتبّعنا تاريخ الأرض بما يتلاءم مع حساب العلماء الحالي لتاريخ الكون. نجد أنّ أوّل خليّة بسيطة ظهرت على الأرض قبل 3.7 مليار سنة، وتشكّل الكون بحدّ ذاته قبل حوالي 13.5 مليار سنة. ماذا كان يفعل الكون خلال 10 مليارات سنة قبل ظهور أوّل خلية حيّة على الأرض؟ الاستعداد للحياة. تحتاج البيولوجيا المعقّدة – وحتى أبسط خلية حية تعتبر شديدة التعقيد – الكثير من الكيمياء المعقّدة. فالعناصر الكيميائية التي تكوّن جميع البنى الحية لم تظهر فجأة إلى الوجود؛ بل جرى طبخها حقًا ضمن أفران متعاقبة من النجوم، خلال مليارات السنين. في الواقع، نحتاج إلى نصف عمر الكون تقريبًا ليظهر تنوّع غنيٌّ من العناصر الكيميائية من أجل تشكيل أبسط خلية حية فقط. لكن، بالطبع، لا يعني مجرّد الحصول على العناصر المطلوبة أنّ خليةً ستقفز إلى الوجود بشكل آلي. فمثلًا لا يؤدّي الحصول على حمولة من القرميد والخشب المقطع والزجاج وألواح خشبية إلى أن تقفز هذه المكونات بشكل آلي وتكوّن منزلًا. لا يعتبر الظرف الضروري ظرفًا كافيًا.
قبل البحث في مشكلة كيفية ظهور الخلية الأولى للوجود، يجب علينا أن ننوّه إلى مشكلة حقيقية أمام الملحدين، وهي أنّ وجود الجزيئات الكيميائية نفسها لم يكن متاحًا دومًا، وأن الكون نفسه له بداية، وليس أزليًا. إذا كان الكون حولنا أزلي، يحوي كل صف العناصر الكيميائية المائة أو أكثر، والتي نجدها مرتبة على الجدول الدوري للعناصر، إذن سيبدو من باب الصدفة فقط أن تتدافع العناصر في مكان ما وزمان ما، للحصول على توليفات محظوظة.
الأبد وقت طويل جدًّا (على أقل تقدير) يحيّر العقل، ويجعل أيّ شيءٍ ممكنًا. لكن أظهرت حقيقة امتلاك الكون بداية محدّدة، كما هو الحال مع العناصر الكيميائية، أظهرت العديد من المشاكل على مختلف الأصعدة لكل شخص، بما فيهم دوكينز، الذي يريد استبدال الصدفة بالرب.
بداية، بينما يستطيع الرب الخلقَ الآني أو بأي فترة زمنية يريدها، تحتاج الصدفة وقتًا طويلًا جدًّا جدًّا جدًّا لإنجاز أبسط النواتج. السبب وراء ذلك هو استطاعة الكائنات الذكية الاختيار بذكاء، والصدفة هي الغياب التام للذكاء والاختيار، هي فقط القوى العفوية.
نستطيع توضيح هذه النقطة بإعادة طرح مثال دوكينز المتعلّق "بالحصول على أوراق كاملة بلعبة البريدج، حيث يستقبل كل لاعب من اللاعبين الأربعة مجموعة مناسبة كاملة من الأوراق." إذا أردنا التأكّد بأنّنا وزّعنا أوراقًا كاملة من المرة الأولى، نستطيع ببساطة "ترتيب الورق"، ونختار أن نضع الأوراق التي نريدها في المقدمة بكلِّ ذكاء. لكن إذا أردنا ترك ذلك للصدفة [دون تدخّل ذكائنا في الاختيار] سنقوم بخلط الأوراق، ونراقب كم سنستغرق وقتًا للحصول على مجموعة أوراق كاملة عند اللاعبين الأربعة. (في الواقع، إذا أردنا ترك ذلك للصدفة المحضة، سنترك مجموعة الورق هناك ببساطة ونرجو أن تخلطها الريح أو يحدث لها أمر فجائي). المشكلة هي، كما أقرّ دوكينز، بأنّ احتمالات حدوث هذا الشيء هي 1 إلى 2235197406895366368301559999.
ماذا تعني اللااحتمالية الهائلة هذه إذا ربطناها مع الزمن؟ حسنًا، هناك 31570560 ثانية في السنة، إذاً فعمر الكون هو 426202560000000000 ثانية. وإذا استطاع الحاسوب حساب جميع التوليفات الممكنة للأوراق للاعبين الأربعة خلال دور واحد بكل ثانية بطريقة ما، سيأخذ ذلك أكثر من خمس مليارات ضعف من عمر الكون للمضي في هذا الاحتمال. بالطبع، يمكن أن يحدث ذلك بالمحاولة الأولى (أو بالمحاولة الثانية أو الثالثة)، لكن الاحتمالات المضادة لذلك فلكية. علاوة على ذلك، بخلاف الآلة التي لا تكرّر التوزيعات غير الرابحة ولكن تلغي الاحتمالات التي قامت بتوزيعها بشكل منهجي وفعال دون أن تكرّر أيّ توزيع. يكرّر أيّ موزّع بشري العدد الهائل لتوزيعات الأوراق غير الرابحة، بشكل أكبر من القيام بتوزيع الأوراق الرابحة. علاوة على ذلك، يأخذ أي خلط فيزيائي أو توزيع للأوراق وقتًا أكثر من ثانية واحدة بشكل جدير بالاعتبار. سيموت أيّ موزّع حي بالتأكيد قبل توزيعه لأوراق رابحة بلعبة البريدج. ذكرنا هذه النقطة المهمة بسبب تشابه عمل الطبيعة مع عمل موزّع حي أو آلة ممنهجة العمل.
الآن إذا كان الكون سيبقى للأبد، فلن يعتبر الوقت مشكلة. لديك أكثر من الوقت الكافي لإضاعته. لكن يشكل وضع نقطة بداية محددة للكون مشكلة كبرى لعمل الصدفة الإلهي. لكن الصدفة لا تملك الوقت الأبدي، هي تملك فقط 13.5 مليار سنة. في الواقع، كما وضحنا، بما أنّ تركيزنا على احتمالية ظهور تركيبات كيميائية عشوائية على الأرض. إذًا لا نملك إلّا 4.5 مليار سنة. وبشكل أكثر إفزاعًا، بما أنّ الأرض لم تكن بدرجة كافية من البرودة تسمح بظهور الأشياء الحيّة حتى حوالي 3.8 مليار سنة مضت، فلدينا فترة أقل. حسنًا، ما الذي حدث فعلًا؟ بعكس كل الاحتمالات، تشكّلت أبسط خلية على كوكب الأرض فوقها مباشرة بعد أن أصبحت الأرض باردة بشكل يسمح لوجود أبسط أشكال الحياة الحيوية. يماثل ترك الأمر للصدفة للحصول على التركيب الكيميائي الصحيح والسماح بظهور الخلية الأبسط، كالسماح للصدفة بالحصول على أوراق كاملة في لعبة البريدج، سنكون عندها محظوظين جدًا جدًا جدًا (إذا أخذنا نظرة دوكينز إلى الأمور). يبدو ذلك وكأنّ أحدًا رتّب مجموعة الورق كما يريد.
لا تعتبر هذه النتيجة التي يريد دوكينز الحصول عليها واضحة إلّا إذا سمح باختيارٍ انتقائيٍ للأوراق. يريد دوكينز أن يكون مختارًا للاحتمالات التي يريد من بين جميع الاحتمالات. وجدنا أنّ دوكينز حاول الالتفاف حول مشكلة الاحتمالات الكبيرة عن طريق التصريح الفارغ بأنّ صدفة ظهور شيء هي 1 إلى مليار – وحتى مع الإعلان الذي قام به "لا أصدق ولو للحظة بأنّ أصل الحياة يشبه عمليًا أمرًا غير محتمل الحدوث جدًّا"[2].
يعتقد دوكينز بأنّ الاحتمالات كانت أقل من 1 إلى مليار. يسمح الاعتقاد بأنّ الاحتمالات جيّدة إلى تلك الدرجة بتجنّب الاستنتاج والتكهّن بوجود إله تدخل بآلية ترتيب مجموعة الورق.
الصعوبة هي كالتالي: لا ندرك العدد الكبير من المختصّين والبيولوجيين والفيزيائيين والكيميائيين الذين يشاركون دوكينز تفاؤله الكبير بقدرة الصدفة على إنتاج الحمض النووي، وترك الخلية وحيدة بشكل يجعلها قادرة على العمل. لماذا تعتبر ثقة دوكينز نادرة بالمقارنة مع ثقة العلماء الذين يتعاملون مع أسئلة أصل الحياة؟
كما ذكرنا، حتى الخلية الأبسط معقدة جدًّا. لأغراض دوكينز الخاصة، يرغب دوكينز بتجريد معظم التعقيد الخاص بخليّة حقيقية، واعتبارها جزءًا من الحمض النووي أساسًا (والذي يماثل تجريد التعقيد الحقيقي لمعمل واعتباره مخططًا معماريًا فحسب). فعل دوكينز ذلك لأنّه عالم في البيولوجيا التطورية، وكجزء من خطة معيّنة: كما أوضح في كتابه الجين الأناني (Selfish Gene)، كل شيء قابل للتخفيض في المعلومات الجينية الموجودة في شريط الحمض النووي الخلوي. بمجرّد اقتناعك بذلك، سيتبع ذلك أي شيء، لنسلم جدلًا بتبسيطه الخطأ لدقيقة فهل يصمد تفاؤله؟
Answering New Atheism (23 – 27)
للبروفسور سكوت هون، والدكتور بنيامين ويكر
[1] ريتشارد دوكينز، وهم الإله The God Delusion, 137.
[2] ريتشارد دوكينز، وهم الإله The God Delusion, 138.