title3

 banner3333

 

نقد موقف ريتشارد دوكينز من الصدفة (2)

نقد موقف ريتشارد دوكينز من الصدفة (2)

     سنسأل بعد وصولنا إلى هذه النقطة، ماذا يعني القول بأنّ وجود الرب أمر احتمالي؟ قدّم دوكينز هذا الجواب الهزيل فقط: "لا يستطيع المنطق وحده إقناع أحدهم تمامًا بعدم وجود شيء ما قطعًا"[1]. مهما كانت الاستحقاقات أو النية من خلال هذا الشرط، نودّ عرض تصحيح سنذكره لاحقًا عندما نبحث في محاولة دوكينز إثبات وحثّ الشخص على الاقتناع التام بعدم وجود الرب تقريبًا. ببساطة نقول: وجود الخالق ليست مسألة احتمالية، فهو إمّا أن يكون موجودًا أو غير موجود، والأشياء التي تدخل في مجال الاحتمالية مشروطةٌ بكونها غير ضرورية الوجود. وبالمقابل، الرب أبديٌّ بالتعريف، فإذا كان الرب موجودًا، فإن وجوده سيكون خارج المجال الزمني بالتأكيد.

     قلنا: "إذا وجد الرب" و"بالتعريف"؛ ولذلك فإن هذا التمييز لا يتعلّق (حتى هذه النقطة) بامتلاكنا لدليل على وجود الرب. كما نريد أن نوضّح بأننا لسنا كالقديس أنسيلم St.Anselm الذي برهن على وجود الرب من خلال التعريف، فنحن نستطيع الحصول على تعريف لشيءٍ ما غير موجود، كالحصان وحيد القرن، لكن إن أردنا معرفة وجود الحصان وحيد القرن من عدمه فلا بد أن نجد حصانًا وله قرن في آن معًا. وبنفس الطريقة، إن تأكيد وجود شيء أبديٍّ، وأن يكون هذا الشيء ربًّا، يجب أن يكون في الوقت نفسه عندما نجيب عن سؤال حول وجود الرب. لا نستطيع أن نسأل: "ما هي احتمالية وجود الرب؟" ولنفس السبب لا نستطيع السؤال: "ما هي احتمالية امتلاك الحصان لقرنٍ في منتصف رأسه من المقدمة؟"

     نحن نسلّم، إذًا، بأنّ وجود الرب ليس احتمالًا. لكن مجددًا، لا يحسم ذلك مسألة وجود الرب. فنحن ما زلنا بحاجةٍ لإثبات أنّ وجود الرب واجب الوجود، موجودٌ حقًا. تتدخّل الاحتمالية هنا، لكن تتدخّل فقط باعتبار أن حجتنا غير كاملة. ربّما تكون حجتنا احتمالية حول وجوده الضروري أو عدمه، ونستطيع الحصول على حجة تحتمل الوجود الحالي للماء السائل في كوكب محدّد خارج نظامنا الشمسي بالطريقة نفسها. في كلا الحالتين، الحقيقة حقيقة – فيما إذا كان الرب موجودًا أو غير موجود، وسواءً كان هناك ماءٌ سائلٌ أو لم يكن - أما الاحتمالية فترجع لنوعية حجتنا وقوتها وما تمنحنا من معرفة حين طرحناها. وسنعود إلى هذه النقطة لاحقًا.

     حاليًا، لنعد إلى إيمان دوكينز غير المحدود بالصدفة كما يبدو. لكن نودّ إعادة صياغة مقولة البروفيسور الملحد المعروف ديفيد هيوم David Hume فيما يتعلّق بالمعجزات وفق ما قدّمنا من معطيات حتى الآن:[2] [لا يمكن استخدام حدث أكثر إعجازًا من المعجزة التي تريد نقضه، كسبب لإنكار حدوث المعجزة حقًا]. سيكون تلويح تمثال مريم العذراء الرخامي له لأيّ شخص عاقلٍ شَهِده (وألغى كل احتمالات وجود بعض أنواع الخدع أو الوهم) إعجازًا حقيقيًا أقل إعجازًا من أن يكون نتيجة لتدافع تحت ذري متزامن عشوائي.

     سنجد بأن قولنا هذا مفيدٌ جدًا عندما نعود إلى محاولة دوكينز إقناع قرائه بالمعجزة المادية المتعلّقة بأصل الحياة، وذلك الهدف الرئيس لكل كلامه المتعلّق بالمعجزات.

     قبل القيام بذلك، على أي حال، يجب علينا تبيان الفرق بين المستحيل وغير المحتمل بشكل أوضح، وهو فرق فَقَدَ دوكينز القدرة على شرحه. هذا توضيح بسيط على شكل سؤالين:

ما هو احتمال "الحصول على توزيعة مثالية للأوراق في لعبة البريدج، حيث يستقبل كل من اللاعبين الأربعة مجموعة كاملة من الأوراق؟[3]"

        ما هي احتمالية الحصول على بيت ورقي مؤلف من أربع طوابق، كل طابق يحوي أوراق مجموعة كاملة من الورق، بعد رميها عاليًا في الهواء أثناء إعصار؟

نستطيع حساب الاحتمال الأوّل، وقد قام دوكينز بذلك:" الاحتمالات مقابل حصول ذلك هي: 1 إلى 2235197406895366368301559999"[4]. أما ترتيب مجموعات الورق ضمن الإعصار؟ فاحتمالات الحدوث ليست بذاك القدر، أو حتى ليست أقل من ذلك بكثير، ليس هناك احتمال لها على الإطلاق، فهي غير ممكنة الحدوث، بل مستحيلة فيزيائيًا، وتماثل التدافع العشوائي للذرات في يد التمثال الرخامي، أو أن تقفز البقرة للوصول إلى القمر. هذا نوع مختلف من الاستحالة، مقارنة باستحالة توزيع موزّع ورق البوكر لخمسة أص من مجموعة ورق نظامية حيث لا تحتوي إلّا على أربعة أص (إلا إذا قبلنا الإمكانية المملة التي اقترحها دوكينز بحدوث إعادة ترتيب ذري لورقة جوكر وتحوّلها لورقة أص خامسة).

     ما الذي تعلّمناه من هذا عن حجة دوكينز؟ مجددًا، إن معاملة دوكينز المستحيل كممكن ليستطيع نفي أي إمكانية للإعجاز تعتبر علامة على ضعفه (والمعجزة هي الشيء الوحيد المستحيل الذي استبعده دوكينز، بالنفي وليس بالدليل. يقول دوكينز لقرائه: "فرضيتي بأنّ الأحداث التي يشيع ذكرها كمعجزات ليست أمورًا خارقة للطبيعة، لكنّها جزءٌ من سلسلة من الأحداث الطبيعية الأكثر أو الأقل احتمالية. المعجزة، بكلمات أخرى، في حال حدثت، فإنّ ذلك ضربة حظ مبهرة. لا تنقسم الأحداث برتابة إلى أحداث طبيعية ومعجزات ... فبمجرّد إعطاء وقتٍ أو فرصٍ غير محدودة، فإنّ أيَّ شيءٍ ممكن"[5].

     أيُّ شيءٍ ممكن باستثناء المعجزات، هذا ما يعنيه. بصراحة، ومهما يكن، تعتبر المعجزة شيئًا ممكنًا عند دوكينز، لكن فقط لا يمكن أن تكون إعجازية. تعتبر إعادة بعث المسيح شيئًا ممكنًا بشكل مماثل تمامًا لحدوث تدافع عشوائي لجزيئات الرخام مما يجعل التمثال يلوّح، أو بشكل مماثل لأن تقفز بقرة إلى سطح القمر. من الممكن في الحقيقة أن تكون جميع المعجزات التي حدثت في العهود القديمة والحديثة قد حدثت فعلًا كما ورد ذكرها، ويكون الاختلاف الوحيد أنّها أحداث جزيئية غير محتملة الحدوث للغاية.

     بالطبع، لا نعني بأنّ دوكينز نفسه يعتقد بأنّ أيَّ شيءٍ، مهما كان غريبًا أو جنونيًا أو "إعجازيًا" ممكنٌ حقًا. في الواقع، يستخدم دوكينز هذا النوع من الحجج لغاية لديه؛ حيث يستخدم اعتقاده المطلق بالصدفة كوسيلة ليبدأ تفسيراته المادية لأحداثٍ تبدو لأيِّ شخصٍ عاقل أنها تستلزم سببًا خارقًا لطبيعة.

     لنكن أوضح، أظهر دوكينز خلطًا انتقائيًا واضحًا بين الممكن والمستحيل ليوافق ذلك غاياته، ويتجاوز في خلطه حتى حدود الخفة الذهنية التي خدعت العديد من قرائه (ونفترض أنها خدعت دوكينز نفسه). لننظر لمثال مثير من كتابه "وهم الإله" عن "معجزة" ظهور الحياة على سطح الأرض، أراد دوكينز من وراء ذلك إظهار أنّ وجود الرب غير ضروري.

     وفقًا لدوكينز، نستطيع التخمين بوجود "مليار مليار" كوكب يصلح للحياة في مكان ما من الكون الواسع، ويفترض أن حدثًا بعيد الاحتمال [واحد إلى مليار] سيكون ممكنَ الحدوث بالصدفة (لا يعني بذلك احتمال ظهور الحياة بمعناها الشامل، لكن "مجرّد ظهورٍ عفويٍ لشيء مكافئ للدنا.") حسنًا، إذًا، يستنتج دوكينز "حتى بوجود هكذا احتمالات سخيفة صعبة التحقق، ستوجد الحياة على مليار كوكب – منها الأرض بالطبع."

[اهـ 17]

     يعتبر هذا استنتاجًا مفاجئًا، يعلّق دوكينز:"سأقولها ثانية، إذا كانت احتمالات تولّد حياة على كوكبٍ ما عفويًا واحد إلى مليار، يبقى الحدث غير المتوقّع مع ذلك مفاجأة ممكنة الحدوث على مليار كوكب"[6].

     يعتبر هذا استنتاجًا مفاجئًا وخصوصًا لأنه لا ينتج من مقدمته. فالحجة التي قدّمها دوكينز معيبة. سنتطرّق لمزيد من الأسئلة المتعلقة بالفيزياء والكيمياء في الفصل القادم لكن، حتى هذه النقطة، نبهنا، وبالمنطق، للمشكلة القابعة في تفسيرات دوكينز السببية. لا يمكنك افتراض ما تريد إثباته، يسمى ذلك "المصادرة على المطلوب" وبشكل منمّق أكثر، مغالطة [افتراض المقدمة]، وقع دوكينز في المغالطة لأنّه افترض دون أن يقدّم حجّة بأنّ تجمّع مكونات الدنا العفوي مماثلة للحصول على مجموعة أوراق كاملة في لعبة البريدج، لكنها مماثلة لرمي مجموعة أوراق كاملة ضمن إعصار والحصول عليها مرتبة ضمن أربع طوابق في كل طابق مجموعة كاملة. هذا ما يجب على دوكينز إثبات إمكانية حدوثه بدلًا من افتراض ذلك.

     السؤال الفعلي، السؤال السابق، هو حول الإمكانية والاستحالة، وليس حول من أقل أو أكثر احتمالية، إذا كان قذف مجموعة كاملة من أوراق اللعب ضمن إعصار والحصول عليها مرتبة ضمن أربع طوابق مستحيلًا لأنّ الأوراق ستتطاير بعيدًا بسبب الإعصار. إذًا فلن يصبح ذلك ممكنًا عبر إضافة مليار مليار كوكب متاح إلى الحسابات، أو حتى تريليون تريليون. إذا كان الظهور العفوي للدنا مستحيلًا ببساطة، فليس مهمًا إذا كان هناك مليارات أو تريليونات من الكواكب، ذلك لن يحدث ولا يمكن حدوثه. بالتالي، يجب أن نكون يقظين ألا يفترض دوكينز أنّ المستحيل شيء غير محتمل جدًا جدًا.

     حتى بالتسليم بإمكانية "الظهور العفوي لشيء يكافئ الدنا"، فإنّ من التضليل الفظيع مجرّد افتراض أن حدثًا احتماله واحد إلى مليار سهل الحدوث. إذا كانت الاحتمالات جيّدة لهذا الحد حقًا، فلا مغزى للشكوك الموجودة لدى العلماء حول سيناريوهات أصل الحياة. سنرى في الفصل القادم بشكل واضح

[اهـ 18]

     سبب وجود تلك الشكوك. لكن إلى هنا، نستطيع الملاحظة بأنّ إنقاص الاحتمالات سيُفشل برهان دوكينز. وهذا بسبب الطريقة التي تتعاظم بها الاحتمالات. يقدر احتمال الحصول على رقم خمسة عبر رمي المكعب ذي الأوجه الست بواحد إلى ستة. لكن احتمالية الحصول على الرقم خمسة مرتين برمي النرد مرتين هي  أو واحد إلى ستة وثلاثين. ورمي النرد لعشر مرات: واحد إلى 60466176. ورمي النرد لعشرين مرّة: واحد إلى 3656158440062976. ورمي النرد لخمس وعشرين مرّة: واحد إلى 28430288029929701376. لن نستغرق وقتًا كبيرًا حتى نصل إلى احتمالٍ أكبر من واحد إلى مليار من الاحتمالات، وحتى الوصول إلى مليار مليار احتمال. ونتيجة لذلك، سيؤثر إنتاج أرقام صغيرة نسبيًا من العوامل المضرة بعملية الإنتاج على احتمالات دوكينز المليار المتعلقة بالإنتاج العفوي للدنا. وقريبًا ستكون كافية لمحي حجة دوكينز الواهية بأن "سيبقى بإمكان الحياة أن توجد على مليار كوكب، والأرض أحدها بالطبع." وبالتالي، لن نسمح لأنفسنا بالاعتقاد بأنّ دوكينز يستطيع أن يجيب على هذا السؤال فقط عن طريق ذكر احتمالِ [واحد إلى مليار]. يجب أن يُثبت بأنّ ذلك ممكن الحدوث بداية، ثمَّ يعطي تخمينًا معقولًا بالنظر إلى الاحتمالات.

     بالطبع، تلك مسألة متعلقة بتفاصيل علميّة، وقبل الدخول إلى التفاصيل العلمية في الفصل القادم، سنعرض عدّة ملاحظات. نعتقد بأنّ من العدل القول بأنّ قوّة إيمان دوكينز بقوى الصدفة، مماثلة لقوّة إيمان معظم البشر بوجود الرب، وإن لم يكن أقوى. نبرّر تسميتنا ذلك بالإيمان بسببين. أولاً، يقر دوكينز بنفسه بأنّ وجود الرب" أمرٌ بعيد الاحتمال جدًا"، بدلًا من القول بأنه أمر مستحيل قطعًا، ونفترض بأنّه لا يقف على الحياد في مسألة وجود المثلث ذي الزوايا الأربعة.

      من الواضح أن دوكينز لا يعير اهتمامًا لتصنيفنا إلحادَه كنوعٍ من الإيمان، ويطمئنُ قرّاءه ويقول: "لا يملك الملحدون إيمانًا ... لا يستطيع المنطق وحده أن يدفع إلى الاعتراف التام بأنّ شيئًا ما غير موجود قطعًا"[7]. ولكن إذا لم يكن المنطق وحده يكفي،

[اهـ 19]

    فما الذي يضاف إليه إذًا ليكفي؟ ألم يقل دوكينز" أنا أعتقد بأنّ الرب غير موجود رغم أن المنطق وحده لا يستطيع إثبات ذلك"؟

    من الواضح أنّ دوكينز أراد تفادي الإجابة بادّعاء عدم استطاعة المنطق بمفرده "حثّ الشخص على الاقتناع التام بأنّ شيئًا ما غير موجود قطعًا". كما ذكر دوكينز، بناءً على ذلك أنه لا يمكن إنكار وجود الجنيات أسفل الحديقة بشكل قطعي.

    هل يبدو ذلك منطقيًا؟ ما الذي ألجأ دوكينز ليسمح بهذه الحماقة؟ تنبع الحماقة تحديدًا من رغبته ليثبت للقارئ بأنّ الرب غير موجود – وهذا تناقض نوعًا ما. ولأنّ دوكينز يريد أن يؤكّد عدم حاجة المعجزات لسبب خارق للطبيعة، فإنه يريد أن يؤكد إمكانية حدوث أيّ شيء، وذلك ليهب الصدفة القدرة على تقديم تفسيرٍ ماديٍ لأي معجزة ظاهرة، كتلويح تمثال مريم العذراء أو "الظهور العفوي" لشيء يكافئ الدنا الموجود على الأرض في كوكب ما. بهذه الطريقة، يستطيع دوكينز الاستغناء عن رب المعجزات والربٍ الخالق بضربة واحدة.  لكن بما أنّ أيّ شيء ممكن، لا يستطيع المنطق وحده إيصال الفرد لاقتناع تام بأنّ أيّ شيء غير موجود قطعًا بمفرده".

    فخٌّ مثير، أليس كذلك؟ تقبّل دوكينز بكل سخف بأنّ أيّ شيء ممكن لرغبته بنفي وجود الرب. لكنّه بعد أن رمى نفسه كذلك، وجد نفسه غير قادر على نفي وجود الرب كليًا، وهو الشيء الذي خاض في الحماقة لأجل إثباته، لكن قاده ذلك لحالة من الإيمان القائم على الشكّ والذي جعل من عدم إيمانه نوعًا من الاعتقاد. يتّجه بنا هذا إلى سبب آخر يجعلنا نطلق على اعتقاد دوكينز بأنه اعتقاد قائم على الشكّ. سيكون من الصعب تخيّل وجود إيمانٍ شديدٍ بقوى الصدفة أكثر من أن يتحدّث رجل بوجه واثق عن إمكانية حقيقية لأن يلوّح تمثال رخامي بيده أو أن تقفز بقرة إلى سطح القمر.

[اهـ 20]

    [..] فلماذا إذن هذا الإخلاص لهذا الرب العظيم المتقلّب، الصدفة؟ بكل بساطة، يفضّل دوكينز الإيمان بأيِّ شيءٍ عدا الرب.

لكن ما هو هذا الرب المدعو بالصدفة؟ كيف يستطيع أن يكون وجوده قويًا، قويًا جدًا بحيث يستطيع استبدال الحاجة لرب خالق ذكي قادرٍ حي؟ كما أشار أرسطو منذ زمن بعيد للماديين في عصره – الذين بجّلوا تغيرات الصدفة بشكل مماثل لدوكينز – بأنّ الصدفة ليست قضية، لأنّها ليست فعلًا بشيءٍ.  هناك صدفة لحدوث شيء، لكن ما يهمنا هو هذا الشيء، لأنّ ذلك هو الذي يخبرك عن الموجود حقًا ويحدّد ما تستطيع أن تعنيه بالصدفة بشكل ممكن. أيضًا، حتى هنا، الصدفة ليست بشيءٍ حقًا.

     لنستخدم مثالا شائع، إن احتمال الحصول على رقم خمسة عند رمي حجر النرد ذو الأوجه الستة هو 1 إلى 6، لكن الصدفة هنا ليست شيئًا أو سببًا. سبب وجود الاحتمالات الستة هو وجود ستة أوجه للنرد في الواقع، وصناعته بطريقة تجعل من الممكن دحرجته، والتوقّف عن الدحرجة، وهكذا. لا تعتبر صدفة 1 إلى 6 شيئًا إذا ما أخذنا النرد بعين الاعتبار، لكنها طريقة مختصرة لوصف الموجودات الحقيقية والظروف التي تسمح لوجود ستة احتمالات مختلفة، لكن احتمالاتها متماثلة تمامًا لحدث محدّد. نستطيع إلغاء الاحتمال المعادل لـ 1 إلى 6 عبر تغيير النرد أو الظروف، كطمس نقط النرد أو رمي النرد إلى داخل فرن. ينفي هذا اعتبار الصدفة كإله، وجاعلًا الصدفة ليست بقضية قوية أو أوليّة، وإنّما ظلًا ثانويًا لموجودات وقضايا أخرى.

[اهـ 21]

     يفهم دوكينز بنفسه هذه النقطة بوضوح بالنظر إلى الانتقاء الطبيعي. أشار دوكينز في العديد من الأماكن إلى أنه يعتبر الانتقاء الطبيعي (بالرغم من أنّه يبني ميزات ملائمة خطوة بخطوة تراكميا) معاكسًا للصدفة. الفكرة بالنسبة لدوكينز هي التالي، لو كان على الانتقاء الطبيعي إنتاج عينٍ دفعة واحدة فسنحتاج لمجموعة كبيرة من الطفرات العشوائية معًا، وسنعتبر التطوّر برمته عندها محض صدفة، وبالتالي سيكون أقرب إلى المستحيل لعدم ميل أجزاء المادة (الذرات المختلفة) لتشكيل بنية بيولوجية معقدة جدًا متعدّدة الطبقات عفويًا. سنعتمد عندها على الصدفة للقيام بأمور لا يستطيع أحدٌ القيام بها إلّا الرب. لكنّ مسألة بناء عين عبر خطوات صغيرة، تشارك الصدفة في كل خطوة منها بشكل ضئيل جدًا وتعمل وفقًا لمعدّل الطفرات الطبيعي في الجينات، فهنا لا تعتبر الصدفة إلهًا يُوجِدُ المعجزات، ولكنها شيء يمكن فهمه بالرجوع إلى ماهية الموروثات، كيف تنسخ، وكيف تستطيع التأثير على التسلسل الجيني لجزيئة الدنا.

     لكن كما رأينا، نمت الصدفة لدرجة فظيعة عند دوكينز بمحاولته تفسير إمكانية حدوث أي شيء بها. السبب، كما رأينا، بأنّ دوكينز يريد استخدام الصدفة كبديل للرب فيما يتعلّق بأصل الحياة، وبما أنّ على الصدفة أن تمتلك قوى الرب وتحلّ محلًه، ونمت بعدها وفقًا لذلك، أصبحت الصدفة ربّاً يستطيع القيام بأيّ شيء. لا يحتاج دوكينز لربه المسمى بالصدفة ليقوم بكلّ شيءٍ بالطبع. لكنه يحتاجه في الأمور التي يظنّ بأنّ الانتقاء الطبيعي لا يستطيعها فقط، ويبدو أنّها تحتاج ربًا حقيقيًا: ألا وهو خلق أولى الكائنات الحيّة. لنرَ الآن ما يستطيع هذا الرب أن يفعل.

[اهـ 22]

Answering New Atheism (14 – 17)

للبروفسور سكوت هون، والدكتور بنيامين ويكر


 

[1]  ريتشارد دوكينز، وهم الإله The God Delusion, 51.

[2]  مقولة هيوم Hume هي التالي:" لا يوجد دليل كافٍ لحدوث معجزة، إلا إذا كان البرهان من النوع الذي يحتاج إبطاله إعجازًا أكبر، من الواقعة التي نبحث إثباتها".

هيوم David Hume, تحقيق يخص طبيعة الإنسان An Enquiry Concerning Human Understanding، Indianpolis، IN: Hackett،1981)، فصل 10، صفحة 77.

[3]  مثال استخدمه دوكينز نفسه، لذلك لا يمكن اتهامنا بالغش بمجموعة الورق. صانع الساعات الأعمى The Blind Watchmaker, 161.

[4]  ريتشارد دوكينز صانع الساعات الأعمى The Blind Watchmaker, 161.

[5]  ريتشارد دوكينز، صانع الساعات الأعمى The Blind Watchmaker, 139.

[6] ريتشارد دوكينز، وهم الإله The God Delusion 137-138, إضافة تأكيدية.

[7] ريتشارد دوكينز، وهم الإله The God Delusion, 51.