الاستقلال بالفعل من خصائص رب العالمين
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
((ولهذا لما كان وجوب الوجود: من خصائص رب العالمين والغنى عن الغير من خصائص رب العالمين: كان الاستقلال بالفعل من خصائص رب العالمين، وكان التنزّه عن شريك في الفعل والمفعول من خصائص رب العالمين؛ فليس في المخلوقات ما هو مستقل بشيء من المفعولات، وليس فيها ما هو وحده علة قائمة، وليس فيها ما هو مستغنيًا عن الشريك في شيء من المفعولات، بل لا يكون في العالم شيء موجود عن بعض الأسباب إلا بمشاركة سبب آخر له. فيكون - وإن سمي علة - علة مقتضية سببية؛ لا علة تامة ويكون كل منهما شرطا للآخر؛ كما أنه ليس في العالم سبب إلا وله مانع يمنعه من الفعل؛ فكل ما في المخلوق - مما يسمى علة أو سببًا أو قادرًا أو فاعلًا أو مدبرا - فله شريك هو له كالشرط وله معارض هو له مانع وضد وقد قال سبحانه: { وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ}[الذاريات: 49]. والزوج يراد به النظير المماثل والضد المخالف وهو الندّ. فما من مخلوق إلا له شريك وند. والرب سبحانه وحده هو الذي لا شريك له، ولا ند، بل ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. ولهذا لا يستحق غيره أن يسمى خالقًا ولا ربًا مطلقًا ونحو ذلك؛ لأن ذلك يقتضي الاستقلال والانفراد بالمفعول المصنوع، وليس ذلك إلا لله وحده؟ ولهذا - وإن نازع بعض الناس: في كون العلة تكون ذات أوصاف وادّعى أن العلة لا تكون إلا ذات وصف واحد - فإن أكثر الناس خالفوا في ذلك وقالوا: يجوز أن تكون ذات أوصاف، بل قيل لا تكون في المخلوق علة ذات وصف واحد أو ليس في المخلوق ما يكون وحده علة ولا يكون في المخلوق علة إلا ما كان مركبًا من أمرين فصاعدًا. فليس في المخلوق واحد يصدر عنه شيء فضلا عن أن يقال : الواحد لا يصدر عنه إلا واحد ؛ بل لا يصدر من المخلوق شيء : إلا عن اثنين فصاعدًا وأما الواحد الذي يفعل وحده فليس إلا الله. فكما أن الوحدانية واجبة له لازمة له: فالمشاركة واجبة للمخلوق لازمة له والوحدانية مستلزمة للكمال، والكمال مستلزم لها، والاشتراك مستلزم للنقصان والنقصان مستلزم له. وكذلك الوحدانية مستلزمة للغنى عن الغير: والقيام بنفسه ووجوبه بنفسه وهذه الأمور - من الغنى والوجوب بالنفس والقيام بالنفس - مستلزمة للوحدانية؛ والمشاركة مستلزمة للفقر إلى الغير والإمكان بالنفس وعدم القيام بالنفس. وكذلك الفقر والإمكان وعدم القيام بالنفس مستلزم للاشتراك. وهذه وأمثالها من دلائل توحيد الربوبية وأعلامها، وهي من دلائل إمكان المخلوقات المشهودات وفقرها وأنها من بدئه؛ فهي من أدلة إثبات الصانع؛ لأن ما فيها من الافتراق والتعداد والاشتراك: يوجب افتقارها وإمكانها، والممكن المفتقر لا بد له من واجب غني بنفسه وإلا لم يوجد)).
(مجموع الفتاوى: 2/ 34 – 36).