تأملات في هداية النحل
وأمر النحل في هدايتها من أعجب العجب، وذلك أن لها أميرًا ومدبّرًا وهو اليعسوب، وهو أكبر جسمًا من جميع النحل وأحسن لونًا وشكلًا، وإناث النحل تلد في إقبال الربيع، وأكثر أولادها يكن إناثًا، وإذا وقع فيها ذكر لم تدعه بينها، بل إما تطرده، وإما أن تقتله إلا طائفة يسيرة منها تكون حول الملك. وذلك أن الذكر منها لا تعمل شيئًا، ولا تكسب، ثم تجمع الأمهات وفراخها عند الملك، فيخرج بها إلى المرعى من المروج والرياض والبساتين والمراتع في أقصد الطرق وأقربها، فيجتني منها كفايتها، فيرجع بها الملك، فإذ انتهوا إلى الخلايا، وقف على بابها، ولم يدع ذكرًا ولا نحلة غريبة تدخلها، فإذا تكامل دخولها، دخل بعدها، وتواجدت النحل مقاعدها وأماكنها، فيبتدئ الملك بالعمل، كأنه يعلّمها إياه، فيأخذ النحل في العمل ويتسارع إليه، ويترك الملك العمل، ويجلس ناحية بحيث يشاهد النحل، فيأخذ النحل في إيجاد الشمع من لزوجات الأوراق والأنوار، ثم تقتسم النحل فرقًا، فمنها: فرقة تلزم الملك، ولا تفارقه، ولا تعمل، ولا تكسب، وهم حاشية الملك من الذكورة.
ومنها: فرقة تهيئ الشمع وتصنعه. والشمع هو ثفل العسل، وفيه حلاوة كحلاوة التين. وللنحل فيه عناية شديدة فوق عنايتها بالعسل، فينظفه النحل ويصفّيه ويخلصه مما يخالطه من أبوالها وغيرها. وفرقة تبني البيوت، وفرقة تسقي الماء وتحمله على متونها. وفرقة تكنس الخلايا وتنظّفها من الأوساخ والجيف والزبل. وإذا رأت بينها نحلة مهينة بطالة قطعها وقتلها حتى لا تفسد عليهن بقية العمال، وتعديهن ببطالتها ومهانتها.
وأول ما يبنى في الخلية مقعد الملك وبيته، فيبني له بيتًا مربعًا يشبه السرير والتخت فيجلس عليه، ويستدير حوله طائفة من النحل، تشبه الأمراء والخدم والخواص، لا يفارقنه، ويجعل النحل بين يديه شيئا يشبه الحوض، يصبّ فيه من العسل أصفى ما يقدر عليه، ويملأ منه الحوض، يكون ذلك طعامًا للملك وخواصه، ثم يأخذن في ابتناء البيوت على خطوط متساوية كأنها سكك ومحال، وتبني بيوتها مسدسة متساوية الأضلاع، كأنها قرأت كتاب أقليدس حتى عرفت أوفق الأشكال لبيوتها، لأنّ المطلوب من بناء الدور هو الوثاقة والسعة. والشكل المسدّس دون سائر الأشكال إذا انضمت بعض أشكاله إلى بعض صار شكلا مستديرا كاستدارة الرحى، ولا يبقى فيه فروج ولا خلل، ويشدّ بعضه بعضًا حتى يصير طبقًا واحدًا محكمًا، لا يدخل بين بيوته رءوس الإبر، فتبارك الذي ألهمها أن تبني بيوتها هذا البناء المحكم الذي يعجز البشر عن صنع مثله، فعلمت أنها محتاجة إلى أن تبني بيوتها من أشكال موصوفة بصفتين:
إحداهما: أن لا تكون زواياها ضيقة، حتى لا يبقى الموضع الضيق معطلًا.
الثانية: أن تكون تلك البيوت مشكلة بأشكال إذا انضم بعضها إلى بعض، وامتلأت العرصة منها، فلا يبقى منها شي ء ضائعًا، ثم إنها علمت أن الشكل الموصوف بهاتين الصفتين هو المسدس فقط، فإن المثلثات والمربعات، وإن أمكن امتلاء العرصة منها إلا أنّ زواياها ضيقة. وأما سائر الأشكال، وإن كانت زواياها واسعة إلا أنها لا تمتلئ العرصة منها، بل يبقى فيما بينها فروج خالية ضائعة. وأما المسدس فهو موصوف بهاتين الصفتين، فهداها سبحانه على بناء بيوتها على هذا الشكل من غير مسطّر ولا آلة ولا مثال يحتذى عليه، وأصنع بني آدم لا يقدر على بناء البيت المسدس إلا بالآلات الكبيرة، فتبارك الذي هداها أن تسلك سبل مراعيها على قوتها وتأتيها ذللا لا تستعصي عليها، ولا تضل عنها، وأن تجتني أطيب ما في المرعى وألطفه، وأن تعود إلى بيوتها الخالية، فتصبّ فيها شرابًا مختلفًا ألوانه فيه شفاء للناس، إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكرون.
فإذا فرغت من بناء البيوت، خرجت خماصًا، تسيح سهلًا وجبلًا، فأكلت من الحلاوات المرتفعة على رءوس الأزهار وورق الأشجار، فترجع بطانًا، وجعل سبحانه في أفواهها حرارة منضجة، تنضج ما جنته، فتعيده حلاوة ونضجًا، ثم تمجّه في البيوت حتى إذا امتلأت، ختمتها، وسدت رؤوسها بالشمع المصفّى، فإذا امتلأت تلك البيوت، عمدت إلى مكان آخر، إن صادفته، فاتخذت فيه بيوتا، وفعلت كما فعلت في البيوت الأولى.
فإذا برد الهوى وأخلف المرعى وحيل بينها وبين الكسب، لزمت بيوتها، واغتذت بما ادّخرته من العسل، وهي في أيام الكسب والسعي تخرج بكرة، وتسيح في المراتع، وتستعمل كل فرقة منها بما يخصها من العمل؛ فإذ أمست، رجعت إلى بيوتها، وإذا كان وقت رجوعها وقف على باب الخلية بوّاب منها، ومعه أعوان، فكل نحلة تريد الدخول يشمّها البواب، ويتفقدها، فإن وجد منها رائحة منكرة، أو رأى بها لطخة من قذر، منعها من الدخول وعزلها ناحية إلى أن يدخل الجميع، فيرجع إلى المعزولات الممنوعات من الدخول، فيتفقدهن، ويكشف أحوالهن مرة ثانية، فمن وجده قد وقع على شيء منتن أو نجس، قدّه نصفين، ومن كانت جنايته خفيفة تركه خارج الخلية، هذا دأب البواب كل عشية.
وأما الملك فلا يكثر الخروج من الخلية إلا نادرًا، إذا اشتهى التنزّه، فيخرج ومعه أمراء النحل والخدم، فيطوف في المروج والرياض والبساتين ساعة من النهار، ثم يعود إلى مكانه. ومن عجيب أمره أنه ربّما لحقه أذى من النحل أو من صاحب الخلية أو من خدمه، فيغضب ويخرج من الخلية، ويتباعد عنها، ويتبعه جميع النحل، وتبقى الخلية خالية، فإذا رأى صاحبها ذلك، وخاف أن يأخذ النحل، ويذهب بها إلى مكان آخر، احتال لاسترجاعه، وطلب رضاه، فيتعرف موضعه الذي صار إليه بالنحل، فيعرفه باجتماع النحل إليه، فإنها لا تفارقه، وتجتمع عليه حتى تصير عليه عنقودًا، وهو إذا خرج غضبًا جلس على مكان مرتفع من الشجرة، وطافت به النحل، وانضمّت إليه حتى يصير كالكرة، فيأخذ صاحب النحل رمحًا أو قصبة طويلة، ويشدّ على رأسه حزمة من النبات الطيب الرائحة العطر النظيف، ويدنيه إلى محل الملك، ويكون معه إما مزهر أو يراع أو شي ء من آلات الطرب، فيحركه، وقد أدنى إليه ذلك الحشيش، فلا يزال كذلك إلى أن يرضى الملك، فإذا رضي وزال غضبه، طفر ووقع على الضّغث، وتبعه خدمه وسائر النحل، فيحمله صاحبه إلى الخلية، فينزل، ويدخلها هو وجنوده.
ولا يقع النحل على جيفة ولا حيوان ولا طعام. ومن عجيب أمرها أنها تقتل الملوك الظّلمة المفسدة، ولا تدين لطاعتها.
والنحل الصغار المجتمعة الخلق هي العسّالة، وهي تحاول مقاتلة الطوال القليلة النفع وإخراجها ونفيها عن الخلايا، وإذا فعلت ذلك، جاد العسل، وتجتهد أن تقتل ما تريد قتله خارج الخلية صيانة للخلية عن جيفته. ومنها صنف قليل النفع كبير الجسم، وبينها وبين العسّالة حرب، فهي تقصدها وتغتالها، وتفتح عليها بيوتها وتقصد هلاكها. والعسّالة شديدة التيقّظ والتحفّظ منها، فإذا هجمت عليها في بيوتها، حاولتها وألجأتها إلى أبواب البيوت فتتلطّخ بالعسل، فلا تقدر على الطيران، ولا يفلت منها إلا كلّ طويل العمر، فإذا انقضت الحرب وبرد القتال، عادت إلى القتلى، فحملتها وألقتها خارج الخلية.
وقد ذكرنا أنّ الملك لا يخرج إلا في الأحايين، وإذا خرج خرج في جموع من الفراخ والشبان، وإذا عزم على الخروج ظل قبل ذلك اليوم أو يومين يعلم الفراخ، وينزلها منازلها، ويرتبها، فيخرج ويخرجن معه على ترتيب ونظام قد دبّره معهن، لا يخرجن عنه، وإذا تولّدت عنده ذكران، عرف أنهن يتطلبن الملك، فيجعل كل واحد منهم على طائفة من الفراخ، ولا يقتل ملك منها ملكًا آخر، لما في ذلك من فساد الرعية وهلاكها وتفرقها، وإذا رأى صاحب الخلية الملوك قد كثرت في الخلية، وخاف من تفرّق النحل بسببهم، احتال عليهم، وأخذ الملوك كلها إلا واحدًا، ويحبس الباقي عنده في إناء، ويدع عندهم من العسل ما يكفيهم، حتى إذا حدث بالملك المنصوب حدث مرض أو موت، أو كان مفسدًا، فقتلته النحل، أخذ من هؤلاء المحبوسين واحدًا، وجعله مكانه، لئلا يبقى النحل بلا ملك، فيتشتت أمرها.
ومن عجيب أمرها أنّ الملك إذا خرج متنزهًا ومعه الأمراء والجنود، ربما لحقه إعياء فتحمله الفراخ.
وفي النحل كرام عمّال، لها سعي وهمّة واجتهاد، وفيها لئام كسالى قليلة النفع مؤثّرة للبطالة، فالكرام دائما تطردها وتنفيها عن الخلية، ولا تساكنها خشية أن تعدي كرامها وتفسدها.
والنحل من ألطف الحيوان وأنقاه، ولذلك لا تلقي زبلها إلا حين تطير، وتكره النتن والروائح الخبيثة، وأبكارها وفراخها أحرس وأشدّ اجتهادًا من الكبار وأقلّ لسعًا وأجود عسلًا، ولسعها إذا لسعت أقل ضررا من لسع الكبار.
ولما كانت النحل من أنفع الحيوان وأبركه، قد خصّت من وحي الرب تعالى وهدايته بما لم يشركها فيه غيرها، وكان الخارج من بطونها مادة الشفاء من الأسقام، والنور الذي يضيء في الظلام، بمنزلة الهداة من الأنام، كان أكثر الحيوان أعداء، وكان أعداؤها من أقلّ الحيوان منفعة وبركة، وهذه سنة اللّه في خلقه، وهو العزيز الحكيم.
[شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل: (1/ 183 - 188)]