تأملات في هداية الحمام
وهذا الحمام من أعجب الحيوان هداية، حتى قال الشافعي: "أعقل الطير الحمام". وبرد الحمام هي التي تحمل الرسائل والكتب، ربما زادت قيمة الطير منها على قيمة المملوك والعبد، فإن الغرض الذي يحصل به لا يحصل بمملوك ولا بحيوان غيره، لأنه يذهب ويرجع إلى مكانه، من مسيرة ألف فرسخ فما دونها، وتنهي الأخبار والأغراض والمقاصد التي تتعلّق بها مهمّات الممالك والدول.
والقيّمون بأمرها يعتنون بأنسابها اعتناءً عظيمًا، فيفرّقون بين ذكورها وإناثها وقت السفاد، وتنقل الذكور عن إناثها إلى غيرها والإناث عن ذكورها، ويخافون عليها من فساد أنسابها وحملها من غيرها، ويتعرّفون صحة طرقها ومحلها، لا يأمنون أن تفسد الأنثى ذكرًا من عرض الحمام، فتعتريها الهجنة، والقيّمون بأمرها لا يحفظون أرحام نسائهم، ويحتاطون لها، كما يحفظون أرحام حمامهم ويحتاطون لها، والقيّمون لهم في ذلك قواعد وطرق، يعتنون بها غاية الاعتناء، بحيث إذا رأوا حماما ساقطا، لم يخف عليهم حسبها ونسبها وبلدها، ويعظّمون صاحب التجربة والمعرفة، وتسمح أنفسهم بالجعل الوافر له، ويختارون لحمل الكتب والرسائل الذكور منها، ويقولون: هو أحنّ إلى بيته، لمكان أنثاه، وهو أشد متنا وأقوى بدنا وأحسن اهتداء.
وطائفة منهم يختار لذلك الإناث، ويقولون: الذكر إذا سافر وبعد عهده، حنّ إلى الإناث، وتاقت نفسه إليهن، فربما رأى أنثى في طريقه ومجيئه، فلا يصبر عنها، فيترك المسير، ومال قضاء وطره منها. وهدايته على قدر التعليم والتوطين.
والحمام موصوف باليمن والألف للناس، ويحبّ الناس ويحبّونه، ويألف المكان، ويثبت على العهد والوفاء لصاحبه، وإن أساء إليه، ويعود إليه من مسافات بعيدة، وربما صدّ، فترك وطنه عشر حجج، وهو ثابت على الوفاء، حتى إذا وجد فرصة واستطاعة، عاد إليه ...
ومن عجيب هداها أنها إذا حملت رسائل، سلكت الطرق البعيدة عن القرى ومواضع الناس، لئلا يعرض لها من يصدّها، ولا يرد مياههم، بل يرد المياه التي لا يردها الناس. ومن هدايتها أيضا أنه إذا رأى الناس في الهواء، عرف أي صنف يريده، وأي نوع من الأنواع ضده، فيخالف فعله ليسلم منه. ومن هدايته أنه في أوّل نهوضه يغفل ويمرّ بين النسر والعقاب وبين الرخم والبازي وبين الغراب والصقر، فيعرف من يقصده ومن لا يقصده، وإن رأى الشاهين فكأنه يرى السّمّ الناقع، وتأخذه حيرة كما يأخذ الشاة عند رؤية الذئب، والحمار عند مشاهدة الأسد.
ومن هداية الحمام أن الذكر والأنثى يتقاسمان أمر الفراخ، فتكون الحضانة والتربية والكفالة على الأنثى، وجلب القوت والزق على الذكر، فإن الأب هو صاحب العيال والكاسب لهم، والأم هي التي تحبل وتلد وترضع.
ومن عجيب أمرها ما ذكره الجاحظ، أنّ رجلًا كان له زوج حمام مقصوص، وزوج طيار، وللطيار فرخان، قال: ففتحت لهما في أعلى الغرقة كوّة للدخول والخروج وزقّ فراخهما، قال: فحبسني السلطان فجأة، فاهتممت بشأن المقصوص غاية الاهتمام، ولم أشك في موتهما، لأنهما لا يقدران على الخروج من الكوة، وليس عندهما ما يأكلان ويشربان، قال: فلما خلى سبيلي، لم يكن لي همّ غيرهما، ففتحت البيت، فوجدت الفراخ قد كبرت، ووجدت المقصوص على أحسن حال، فعجبت، فلم ألبث أن جاء الزوج الطيار، فدنا الزوج المقصوص إلى أفواههما، يستطعمانهما كما يستطعم الفرخ، فزقّاهما.
فانظر إلى هذه الهداية، فإن المقصوصين لما شاهدا تلطف الفراخ للأبوين، وكيف يستطعمانهما إذا اشتد بهما الجوع والعطش، فعلا كفعل الفرخين، فأدركتهما رحمة الطيارين، فزقاهما كما يزقان فرخيهما.
ونظير ذلك ما ذكره الجاحظ وغيره، قال الجاحظ، وهو أمر مشهور عندنا بالبصرة: إنه لما وقع الطاعون الجارف، أتى على أهل دار، فلم يشكّ أهل تلك المحلة أنه لم يبق منهم أحد، فعمدوا إلى باب الدار فسدّوه، وكان قد بقي صبيّ صغير يرضع، ولم يفطنوا له، فلما كان بعد ذلك بمدة، تحول إليها بعض ورثة القوم، ففتح الباب، فلما أفضى إلى عرصة الدار، إذا هو بصبيّ يلعب مع جراء كلبة، قد كانت لأهل الدار، فراعه ذلك، فلم يلبث أن أقبلت كلبة قد كانت لأهل الدار، فلما رآها الصبيّ حبا إليها، فأمكنته من أطبائها، فمصّها. وذلك أنّ الصبيّ لما اشتد جوعه، ورأى جراء الكلبة يرتضعون من أطباء الكلبة، حبا إليها، فعطفت عليه، فلما سقته مرة أدامت له ذلك، وأدام هو الطلب، ولا يستبعد هذا وما هو أعجب منه، فإنّ الذي هدى المولود إلى مصّ إبهامه ساعة يولد، ثم هداه إلى التقام حملة ثدي، لم يتقدم له به عادة، كأنه قد قيل له: هذه خزانة طعامك وشرابك التي كأنك لم تزل بها عارفا. وفي هدايته للحيوان إلى مصالحه ما هو أعجب من ذلك.
ومن ذلك أن الديك الشاب إذا لقي حبًا، لم يأكله حتى يفرقه، فإذا هرم وشاخ، أكله من غير تفريق، كما قال المدائني: إن إياس بن معاوية مر بديك ينقر حبا، ولا يفرقه، فقال: ينبغي أن يكون هرما، فإنّ الديك الشاب يفرق الحب، ليجتمع الدجاج حوله، فتصيب منه، والهرم قد فنيت رغبته، فليس له همّة إلا نفسه. قال إياس: والديك يأخذ الحبة، فهو يريها الدجاجة حتى يلقيها من فيه، والهرم يبتلعها، ولا يلقيها للدجاجة. وذكر ابن الأعرابي قال: أكلت حية بيض مكّاء، فجعل المكاء يصوّت ويطير على رأسها، ويدنو منها حتى إذا فتحت فاها، وهمت به، ألقى حسكة، فأخذت بحلقها حتى ماتت، وأنشد أبو عمرو الشيباني في ذلك قول الأسدي:
إن كنت أبصرتني عيلا ومصطلما ... فربما قتل المكّاء ثعبانا
[شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل: (1/ 188 – 192)]