title3

 banner3333

 

مغالطة المصادرة على المطلوب

مغالطة المصادرة على المطلوب

     شاركت مرة بحصة تلسكوب مع مجموعة صغيرة من الأشخاص، وفيهم صبي عمره أربع سنوات، وكان مهتمًا بعلم الفلك بالأخصّ؛ فسألت هذا الفلكي الناشئ إن كان يؤمن بوجود سفن لسكان الفضاء، فأجاب: "بالطبع"، ثمّ سألته لماذا يؤمن بوجود سفن لسكان الفضاء -ولن أنسى أبدًّا جوابه الذكي -: "إذًا كيف سيأتي الفضائيون إلينا؟". أليس هذا جواب منطقي جدًّا؟ ليس بوسع الفضائيين المجيء إلى الأرض أبدًّا دون سفينة فضاء، إذًا، فلا بدّ من وجود سفن لسكان الفضاء بالتأكيد.

     إنه مثال رائع عن خطأ كثير الانتشار في الاستدلال، وهو مغالطة المصادرة على المطلوب (The Fallacy of Begging the Question). تُرتكب هذه المغالطة عندما يقوم شخص بافتراض مسبق لما يحاول أن يثبته، أو عندما يعتمد فرض مقدمة الحجة على نتيجتها. حاول طالبنا الصغير في هذه الحالة أن يثبت وجود سفينة لسكان الفضاء عبر التسليم بفكرة أن الفضائيين قد سافروا إلى الأرض، ولكن هذا ما نناقشه فيه أصلًا؛ فهذا الفلكي الشاب الملهم أعمل ذهنه في الاستدلال الدائري.

     نتوقّع بالطبع مثل هذا الاستدلال الطريف من طفل في الرابعة من عمره، لكن مع تقدّمنا بالعمر يتوقّع منا أن نصبح عقلانيين ولا نقع في أخطاء منطقية من هذا النوع. فمن المزعج تمامًا أن نكتشف ارتكاب الكثير من البالغين لمغالطة المصادرة على المطلوب في مناظرات علم البدايات. بعض الأمثلة الواضحة على ذلك هو كقولهم: "لا بدّ أن التطوّر صحيح لأنه حقيقة"، إلا أن الأكثر انتشارًا مغالطة أكثر براعة، ولننظر في بعض الحجج التالية:  ...

     "لا يمكن أن تكون فكرة الخلق صحيحة لأنك ستضطر إلى تجاهل كل الدلائل العلمية"

لكنّ هذه الحجة تصادر على المطلوب لأنها تفترض مسبقًا أن الدلائل العلمية تدعم التطوّر بطريقة ما، وهذا لما يثبت ...

     حان الوقت الآن لنتعمّق فلسفيًا أكثر فاستعدوا جيدًا، إن المصادرة على المطلوب مغالطة غريبة جدًا لأنها في الواقع سليمة منطقيًا. لنتذكر بأن الحجة السليمة منطقيًا هي تلك تخرج نتيجتها من مقدماتها، والمغالطات لا تكون سليمة منطقيًا عادة، فواقع أن نتيجتها لا تأتي من مقدماتها هو ما يجعلها مغالطات، لكن الغريب في مغالطة المصادرة على المطلوب أنها تخرج النتيجة من المقدمة المفترضة (لأنها ببساطة إعادة صياغة للمقدمة)، ولذلك فإن حجة "لا بد أن التطوّر صحيح لأنه حقيقة"، سليمة منطقيًا، لكن إن كانت سليمة منطقيًا فلماذا نعتبرها مغالطة إذًا؟

     للجواب على ذلك يبدو أن المصادرة على المطلوب مغالطة لأنها اعتباطية arbitrary؛ فالحجج الدائرية مثلها غير مفيدة، لأن أيّ شخص ينكر النتيجة سوف ينكر المقدمة المفترضة أيضًا (بما أن النتيجة هي نفس المقدمة أصلًا). إذًا، فحجة "لا بد أن التطوّر صحيح لأنه حقيقة" رغم أنها سليمة فنيًا إلا أنها مغالطة، لأن المجادل افترض فقط ما يحاول أن يثبته. لا يجوز استعمال الافتراضات الاعتباطية في الاستدلال المنطقي، لأنه يمكننا بالمقابل أن نفترض العكس تمامًا، فمن الجائز تمامًا أن يقال: "لا يمكن أن يكون التطور حقيقيًا لأنه باطل".

     ينبغي أن نذكر وجود حالات خاصة يتعذّر فيها تجنّب استعمال الاستدلال الدائري، ولا يكون بالضرورة ارتكابًا للمغالطة. لنتذكّر بأن المصادرة على المطلوب ليست باطلة منطقيًا؛ فسبب اعتبارها مغالطة هو أنها اعتباطية، لكن ماذا لو لم تكن اعتباطية؟ هناك بعض الحالات التي لا بد من افتراض مسبق لصحة نتيجة الحجة في بداية الاستدلال، لكنها غير اعتباطية. ومن الأمثلة على ذلك هذا المثال التالي:

  1. دون قوانين المنطق، لن نستطيع أن نقوم بمناقشة.
  2. يمكننا القيام بمناقشة.
  3. بالتالي لا بد من وجود قوانين للمنطق.

هذه الحجة معقولة تمامًا، وسليمة منطقيًا، لكن وصفها الدقيق هو أنه استدلال دائري، وتستعمل هذه الحجة كقانون في المنطق، ويسمى بالغة اللاتينية modus tollens (طريقة الإنكار) لإثبات وجود قوانين للمنطق. إذاً، فقد افترضنا ضمنيًا ما حاولنا إثباته، لكن ذلك لا يمكن تجنّبه في هذه الحالة؛ فلا بد من استعمال قوانين المنطق لإثبات أي شيء - حتى وجود قوانين المنطق نفسها.

إلا أن الحجة السابقة ليست اعتباطية، إذ لدينا سبب وجيه لافتراض وجود قوانين المنطق، لأنه دونها لا يمكن أن نثبت أيّ شيء، ولعل الشيء الأهم أنه لو حاول أي شخص أن يدحض قوانين المنطق سيفترض أولاً أنها موجودة ليقوم بالاحتجاج، فسيدحض نفسه عندئذ.

معظم أمثلة الاستدلال الدائري التي يستخدمها أنصار التطوّر هي مغالطات من نوع المصادرة على المطلوب - فهي اعتباطية. لنأخذ مثلًا التطوّري الذي يجادل بالتالي: ...

"نعلم وجوب حدوث التطوّر في الماضي، لأننا موجودون هنا!".

      تصادر هذه الحجة على المطلوب، لأن طريقة وجودنا هنا هي محل السؤال بالضبط.  راقِب الحجج التي تفترض بخفاء (بطريقة اعتباطية) فيما يحاول الناقد أن يثبته. وبالأخصّ عندما يسلم أنصار التطوّر بمقدّمات المذهب الطبيعي، ومفهوم الوتيرة الواحدة في الكون، والمذهب التجريبي الصارم strict empiricism (المفهوم القائل بأن كل الادعاءات الصحيحة نعرفها بالملاحظة والتجربة)، وأحيانًا التطوّر بحدّ ذاته، ولكن المؤكّد أن هذه الادّعاءات نفسها هي محل النقاش. عندما يسلم تطوري افتراضًا بهذه الأمور فهو لا يقدّم سببًا منطقياً جيّدًا لموقفه، إنما يؤكد موقفه اعتباطيًا.


A pocket Guide to Logic & Faith (19 – 23).

للدكتور جاسنو ليزلي – عالم الفيزياء الفضائية  الأمريكي -.