تأملات في تأليف أجزاء العالم
تأمّل العبرة في موضع هذا العالم، وتأليف أجزائه، ونظمها على أحسن نظام وأدلّه على كمال قدرة خالقه، وكمال علمه وكمال حكمته وكمال لطفه.
فإنّك إذا تأمّلت العالم وجدته كالبيت المبني المعدّ فيه جميع آلاته ومصالحه وكل ما يحتاج إليه؛ فالسماء سقفه المرفوع عليه، والأرض مهاد وبساط وفراش ومستقرّ للساكن، والشمس والقمر سرجان يزهران فيه، والنجوم مصابيح له وزينة وأدلة للمنتقّل في طرق هذه الدار، والجواهر والمعادن مخزونة فيه كالذخائر والحواصل المعدة المهيأة كل شيء منها لشأنه الذي يصلح له، وضروب النبات مهيأ لمآربه، وصنوف الحيوان مصروفة لمصالحه؛ فمنها الركوب، ومنها الحلوب، ومنها الغذاء، ومنها اللباس والامتعة والآلات، ومنها الحرس الذي وكل بحرس الإنسان؛ يحرسه وهو نائم وقاعد مما هو مستعد لإهلاكه وأذاه، فلولا ما سُلِّط عليه من ضدِّه لم يستقرّ للإنسان قرار بينهم، وجعل الإنسان كالملك المخوّل في ذلك المحكّم فيه، المتصرّف بفعله وأمره.
ففي هذا أعظم دلالة وأوضحها على أن العالم مخلوق لخالق حكيم قدير عليم، قدّره أحسن تقدير، ونظّمه أحسن نظام، وأن الخالق له يستحيل أن يكون اثنين، بل إله واحد، لا إله إلا هو، تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوًا كبيرًا، وأنه لو كان في السماوات والأرض إله غير الله لفسد أمرهما واختلّ نظامهما وتعطلّت مصالحهما.
وإذا كان البدن يستحيل أن يكون المدبِّر له روحان متكافئان متساويان، ولو كان كذلك لفسد وهلك، مع إمكان أن يكون تحت قهر ثالث؛ فكيف يمكن أن يكون المدبّر لهذا العالم العلوي والسفلي إلهين متكافئين متساويين ليسا تحت قهر ثالث؟!
هذا من المحال في أوائل العقول وبداية الفطر، فـ}لَو كانَ فيهما آلهةٌ إلا الله لَفَسدَتا فَسُبحانَ الله رَبّ العَرشِ عمّا يَصِفُون {[الأنبياء: 22]، }ما اتّخَذ اللهُ مِن ولدٍ وَما كَانَ مَعهُ مِن إلهٍ إذًا لَذَهَبَ كُلُّ إلهٍ بما خَلَقَ وَلَعلا بَعضُهم عَلَى بَعضٍ سُبحَانَ الله عمّا يَصِفُون عالم الغيبِ وَالشهادةِ فَتَعَالى عمّا يُشرِكُون{ [المؤمنون: 91 - 92].
فهذان برهانان يعجز الأولون والآخرون أن يقدحوا فيهما بقدح صحيح، أو يأتوا بأحسن منهما، ولا يعترض عليهما إلا من لم يفهم المراد منهما.
[مفتاح دار السعادة: 2/ 587 - 588]