آيات البحار
ومن آياته وعجائب مصنوعاته: البحار المكتنفة لأقطار الأرض، التي هي خُلجانٌ من البحر المحيط الأعظم بجميع الأرض، حتى إن المكشوف من الأرض والجبال والمدن بالنسبة الى الماء كجزيرة صغيرة في بحر عظيم، وبقية الأرض مغمورة بالماء.
ولولا إمساك الرب تبارك وتعالى له بقدرته ومشيئته وحبسه الماء لطفح على الأرض وعلاها كلّها. هذا طبع الماء.
وهذا حارّ عقلاء الطبائعيِّين في سبب بروز هذا الجزء من الأرض، مع اقتضاء طبيعة الماء للعلو عليه وأن يغمره، ولم يجدوا ما يحيلون عليه ذلك إلا الاعتراف بالعناية الأزلية والحكمة الإلهية التي اقتضت ذلك العيش الحيوان الأرضي في الأرض. وهذا حقٌّ، ولكنّه يوجب الاعتراف بقدرة الله وإرادته ومشيئته، وعلمه وحكمته، وصفات كماله. ولا محيص عنه ...
وإذا تأمّلت عجائب البحر وما فيه من الحيوانات على اختلاف أجناسها، وأشكالها، ومقاديرها، ومنافعها ومضارّها، وألوانها ...
هذا مع ما فيه من الجواهر واللؤلؤ والمرجان؛ فترى اللؤلؤة كيف أُودعت في كِنٍّ كالبيت لها - وهي الصَّدَفة - تكنّها وتحفظها، ومنه: ((اللؤلؤ المكنون))، وهو الذي في صَدَفِهِ لم تمّسه الأيدي.
وتأمّل كيف نبت المرجان في قعره في الصخرة الصماء تحت الماء على هيئة الشجر.
هذا مع ما فيه من العنبر وأصناف النفائس التي يقذفها البحر وتستخرج منه.
ثم انظر إلى عجائب السفن وسيرها في البحر، تشقّه وتمخره بلا قائد يقودها ولا سائق يسوقها، وإنما قائدها وسائقها الرياح التي يسخِّرها الله لإجرائها؛ فإذا حُبس عنها القائد والسائق ظلّت راكدة على وجه الماء.
قال الله تعالى: }ومِن آياتِهِ الجَواري في البَحرِ كالأَعلامِ إن يَشأ يُسكنِ الرّيحَ فيَظللَنَ رَوَاكدَ عَلَى ظَهرِهٍ إنَّ في ذلك لآيات لكلِّ صبّارٍ شَكُور {[الشورى: 32 - 33]، وقال الله تعالى: }الله الذي سَخَّرَ لَكُم البَحرَ لتَأكُلوا منه لحمًا طريًّا وَتَستَخرِجُوا منه حليةً تَلبَسُونها وَتَرَى الفُلكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلتَبَتغُوا مِن فَضلِهِ وَلَعلَّكم تَشكُرُون {[النحل: 14].
فما أعظمها من آية وأبينها من دلالة! ولهذا يكرِّر سبحانه ذكرها في كتابه كثيرًا.
وبالجملة فعجائب البحر وآياته أعظم وأكثر من أن يحصيها إلا الله سبحانه؛ وقال الله تعالى: }إنّا لما طَغَى الماءَ حَملنَاكُم في الجارِية لِنَجعلَهَا لكم تَذكرةً وتعيها أذن واعية{ [الحاقّة: 11 - 12].
[مفتاح دار السعادة: 2 / 580 – 583].