أصل الدين
هل يمكن تفسير الدين اجتماعيًا؟
بقلم رضا زيدان.
1-ما هو الدين؟
عرّف الجوهري الدين بأنه: "العادة، والشأن، والدين أيضًا الجزاء والمكافأة يقال: دانه يدينه دينًا أي جازاه ... والدين: الطاعة. ودان له، أي أطاعه"[1].
وهذا التعريف اللغوي هو أساس كل التعريفات الاجتماعية والنفسية والفلسفية.
فمثلًا قد قال عالم الاجتماع الشهير إميل دوركايم: "الدين هو منظومة متماسكة من المعتقدات والممارسات المتعلّقة بأمور مقدسة، محرّمة، وهي معتقدات وممارسات مجموعة في إيلاف أخلاقي واحد، يجمع كل من ينتمون إليه".[2]، " فلا بدّ من وازع يدفع بعضهم عن بعض لما في طباعهم الحيوانيّة من العدوان والظّلم"[3]، كما يقول ابن خلدون.
أما التعريف النفسي فيقول إريك فروم - من أشهر روّاد علم نفس الدين-: "مذهب للفكر والعمل تشترك فيه جماعة ما، ويعطي للفرد إطارًا للتوجيه وموضوعا للعبادة"[4].
أما التعريف الفلسفي، فقد قال لالاند: "الدين مؤسسة اجتماعية متميزة بوجود إيلاف من الأفراد المتحدين، من خلال: أداء بعض العبادات المنتظمة وباعتماد بعض الصيغ؛ وبالاعتقاد في قيمة مطلقة لا يمكن وضع شئ آخر في كفة ميزانها، وهو اعتقاد تهدف الجماعة إلى حفظه. وينتسب الفرد إلى قوة روحية أرفع من الإنسان، وهذه يُنظر إليها إما كقوة منتشرة أو كثيرة أو وحيدة وهي الله"[5].
ومن الواضح أن هذه التعريفات لم تخرج عن التعريف اللغوي.
2- تأصل الدين في الإنسان.
لا خلاف على الحاجة الدينية وضرورتها ونفعها للإنسان، حتى عند الماديين، ولا أدلّ على ذلك من كثرة الأبحاث التي تناقش أصل الدين من مختلف المجالات، فالشعور الديني حاضر في نفوس أغلب البشر[6]، وهو ليس مجرّد انفعال، وليس مجرّد فترة زمنية كما يقول دوركايم، "فلا وجود لإنسان بغير حاجة دينية، حاجة إلى أن يكون له إطار للتوجيه وموضوع للعبادة"[7]. ويؤكّد إريك فروم على أن هذه الحاجة ليس للإنسان حرية في اختيارها، إنما حرّيته في اختيار طبيعتها؛ فكل مجتمع له "مثل عليا" معينة، وأن علينا أن نحكم على هذه الحاجة وفق ما تنطوي عليه من حقيقة وأنها تؤدّي إلى توازن وانسجام في عالم الإنسان[8].
وقال ميرتشا إلياده – بروفسور التاريخ في جامعة شيكاغو -: "كل طقس وكل أسطورة وكل معتقد أو صورة إلهية يعكس تجربة المقدس، ومن ثم فهو يدخل مفاهيم التكون، والمعنى والحقيقة ... من الصعب أن نتصوّر كيف يمكن للنفس البشرية أن تتحرّك دون الاقتناع بوجود شئ حقيقي لا يمكن إنقاصه في هذا العالم، ومن الصعب التصوّر كيف يمكن للشعور أن يبدو بدون أن يضفي دلالة لاندفاعات وتجارب الإنسان. إن الشعور بعالم حقيقي وذي معنى مرتبط صميمًا باكتشاف المقدّس، وبتجربة المقدّس، أدركت النفس البشرية الفارق بين ما يتكشّف كما لو أنه حقيقي، قوي وغني وذي معنى، وبين ما هو مجرّد عن هذه الخصائص، أي المدّ العمائي والخطير للأشياء وظهوراتها واختفاءاتها الطارئة الفارغة من المعنى. باختصار: فإن المقدّس هو عنصر في بنية الشعور وليس مرحلة في تاريخ هذا الشعور. وعلى المستويات الأكثر قدمًا من الثقافة فإن العيش بصفة كائن بشري هو في ذاته عمل ديني، لأن التغذية والحياة الجنسية والعمل لها جميعها قيمة مرتبطة بالأسرار، وبعبارة أخرى: أن تكون - أو بالأحرى - أن تصبح إنسانًا يعني أن تكون متدينًا"[9].
ويزيد في تقرير بنية الإنسان الدينية المتأصّلة بقوله: "إذا كان أهل العصورِ الحجرية قد اعتبروا كبشرٍ كاملين، فيستتبع ذلك أنهم قد امتلكوا معتقدات ومارسوا بعض الشعائر، لأن تجربة المقدّسِ تشكّلُ عنصرًا في بنية الشعور"[10].
ويشارك إلياده في هذا الموقف الكثير من مؤرّخي الأديان، مثل هارالد هوفدنج -الفيلسوف ومؤرخ الأديان - بقوله: "لا يمكن أن ينجح تاريخ الأديان في حلّ مشكلة ظهور الدين في الإنسان كنوع ... إن التاريخ لا يجد هذه البداية الأولى في مكان وزمن ما، ما نجده فقط سلسلة مختلفة من صور الأديان"[11].
ويقول ول ديورَانت – الفيلسوف والمؤرّخ الأمريكي -: "ولا يزال الاعتقاد القديم بأن الدين ظاهرة تعمّ البشر جميعًا اعتقادًا سليمًا؛ وهذه، في رأي الفيلسوف، حقيقة من الحقائق التاريخية والنفسية"[12].
وقال الشيخ عبد الله دراز: "إن الحقيقة التي أجمع عليها مؤرّخو الأديان هي أنه ليست هناك جماعة إنسانية بله أمة كبيرة، ظهرت وعاشت ثم مضت دون أن تفكر في مبدأ الإنسان ومصيره وفي تعليل ظواهر الكون وأحداثه، ودون أن تتخذ لها رأيا معينا في هذه المسائل، حقا أو باطلا، يقينا أو ظنا"[13].
وقال هنري برجسون – الفيلسوف الفرنسي والحائز على جائزة نوبل-: "لقد وُجدت وتوجد جماعات إنسانية من غير علوم وفنون وفلسفات، لكن لم توجد قط جماعة بغير ديانة"[14]. واشتهر جون كالفن – اللاهوتي الفرنسي في عصر النهضة - بإثباته أن بداخل العقول البشرية إدراك لوجود الألوهية غريزيًا. وقال إيفار ليسنر – المؤرّخ الألماني -: "كل الحضارات الإنسانية التي وجدت كان الدين وقضية الإله متأصلًا فيها"[15].
وقال إدوارد ويلسون - عالم البيولوجي الأمريكي -: "إن الاعتقاد الديني هو أحد السلوكيات البشرية العامة، تجده منذ المجتمعات القبلية حتى المجتمعات المتحضّرة"[16].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لابد لكل طائفة من بني آدم دين يجمعهم ... الدين هو التعاهد والتعاقد، وإذا كان كذلك فالأمور التي يحتاجون إليها يحتاجون أن يوجبوها على أنفسهم، والأمور التي تضرهم يحتاجون أن يحرموها على نفوسهم، وذلك دينهم، وذلك لا يكون إلا باتفاقهم على ذلك وهو التعاهد والتعاقد...فهذا هو من الدين المشترك بين جميع بني آدم من التزام واجبات ومحرمات"[17].
فالحاصل أنه متى وجد الإنسان وجد الدين؛ فالدين ظاهرة ملازمة له بحكم الخلقة، والتأكيد على هذه الحقيقة يُطلب من كافة المجالات العلمية كما نقلنا، وقد أكّد على هذه الغريزة الكثير من البحوث العلمية الحديثة مثل أبحاث جاستن باريت - البروفسور في علم الإنسان بجامعة أكسفورد - وغيره[18]؛ فكيف إذن فسرت هذه الغريزة أو الحقيقة؟
3-هل يمكن تفسير الدين اجتماعيا؟
قدّم أوجست كونت - الفيلسوف الفرنسي ومؤسّس علم الاجتماع والمذهب الوضعي - تفسيرًا اجتماعيًا لأصل الدين، فهو يرى أن المجتمع الإنساني قد تطوّر من مستوى "لاهوتي أو خرافي" إلى مستوى متوسّط وهو "الميتافيزيقي أو المجرّد" إلى مستوى نهائي وهو "الوضعية أو العلمية".
ففي المرحلة الأولى شاعت الرؤى اللاهوتية في المجتمعات، حيث ينبني المجتمع على نظام يستمدّ وجوده من كائن إلهي متعال، ويستند النظام الاجتماعي على نظام فوق -اجتماعي، ويفسّر الدين في هذا المجتمع مختلف أوجه الحياة البشرية، بمعنى أن الدين يتيح للناس تفسيرًا عقليًا يلبّي حاجة حيازة رؤية موحدة عن الأشياء، ويتطلع الناس في هذه المرحلة إلى حضور الألوهية في تجليها الطبيعي أو الاجتماعي.
أما المرحلة الثانية فتتميز بالتوجّه لتفكيك المكوّن الواقعي في حدود ميتافيزيقية، أي على ضوء المبادئ الفلسفية المجردة، في غياب الاستناد إلى كائن أعلى أو إله. في هذه المرحلة يفتش الناس عن تفسير موحّد لا يتجاوز العالم، انطلاقا من عناصر بسيطة حاضرة في الطبيعة كالماء والنار.
أما المرحلة الأخيرة فيهيمن فيها المعرفة العلمية، التي تكشف الوقائع عبر الملاحظة ووضع قوانين للطبيعة والمجتمع، وسيتم فيها تجاوز أي معنى ديني أو ميتافيزيقي، ومعيار صحة هذه المرحلة هو أن التقدم العلمي سيفضي حتما إلى نهاية الدين[19].
ويفسر ديفيد هيوم – الفيلسوف البريطاني - بطريقة أخرى لكنها من نفس الميدان الاجتماعي النفسي فيقول: "ينشأ الدين البدائي للنوع الإنساني من الخوف والقلق من أحداث المستقبل ومن الأفكار التي يضمرها الإنسان عن القوى غير المرئية وغير المعروفة"[20].
فهو يرى أن الإنسان البدائي يملك من الوعي ما يجعله يفكّر نظريًا في الظواهر الكونية، ولم يكن مشغولًا بالتفسير العقلي لأعمال الطبيعة لمعرفة العلل الحقيقية التي تكمن وراءها، فضلا عن كونه لم يكن ليرقى بتفكيره إلى درجة افتراض أن وراءها علة واحدة هي الله الواحد. ولذا يستنتج هيوم أن: أفكار الدين الأول لم تنشأ من التفكير في أعمال الطبيعة، وإنما نشأت من القلق إزاء أحداث الحياة، ومن الآمال والمخاوف المستمرة التي تحرك العقل الإنساني...
ويرى هيوم أن تحليل الطبيعة النفسية والعقلية للإنسان البدائي يكشف عن كونه لم يكن مهتما بمسألة التفسير النظري لانتظام ظواهر الطبيعية والكونية، وإنما كان مهتمًا بمحاولة التغلّب على شعوره بالخوف على حاضره ومستقبله وهذا جعل خياله يجسد قوى الطبيعة تجسيدات شخصية على شكل آلهة[21].
الرد على هذا التفسير الاجتماعي:
هناك خطأ بارز في هذا المذهب وهو أن أنصاره جعلوا منه قانوناً يستوعب التاريخ كله في شرط واحد، قطعت الإنسانية ثلثيه بالفعل، ونفضت أو كادت تنفض يدها منها إلى غير رجعة، ولو أنهم جعلوا منه سلسلة دورية كلما ختمت شوطا رجعت عودا على بدء لكان الخطأ في هذه النظرية أقل شناعة، ومع ذلك فهي دعوى غير مسلّمة، للأسباب الآتية:
1- أنها مجرّد نظرية لا دليل عليها، فالحقائق الاجتماعية أو التاريخية لا بد لها من إثباتات معينة يعلمها المتخصصون في المجالين.
2- أن هذه النظرية مخالفة للحس الظاهر، فما زلنا نسمع ونرى في كل عصر تقديسًا للروحانيات، وشغفا بالعالم المقدّس، وليس التقدّم العلمي حائلًا دون التجربة الدينية كما يقول كونت ولا أن التجربة الدينية منبعها الجهل كما يقول هيوم، بل في قلب الحضارة الأوروبية نرى كبار العلماء الحاصلين على جائزة نوبل متدينين، بل منهم من استشهد بعلمه لإثبات مضمون ديني، يقول سلمون ريناك: "ليس أمام الديانات مستقبل غير محدود فحسب، بل لنا أن نكون على يقين من أنه سيبقى شيء منها أبدا، ذلك لأنه سيبقى في الكون دائما أسرار ومجاهيل، ولأن العلم لن يحقق أبدا مهمته على وجه الكمال"[22].
3- هذه النزعات التي يصفها كونت متجاورة في نفس كل فرد داخل الإطار الأخلاقي والأهواء الإنسانية، والحاسم في السلوك هو مدى تمسك الإنسان في لحظة السلوك بأي من هذه "المراحل"، فالإيثار مثلا صعب جدا لو تمسك الإنسان بالنظرة العلمية، بينما يسهل إذا تصور إطارًا أخلاقيًا دينيًا يكافئ هذا الشعور المجيد، كما أن الإيمان بالقضاء والقدر ولا شيء سواه هو المخلص من مصائب الدنيا التي لا يمكن لإنسان في أي عصر أن ينأى عنها تماما.
4- أن العلم نفسه قائم على أفكار وقيم المجتمع، سواء كان بمعنى المنهج الذي يتخذ كالمنهج المادي الموجود الآن أو بمعنى أن الباحث يتأثر بثقافة وقيمة مجتمعه، وبالتالي فالمجتمع والدين أسبق منطقيا ومعرفيا للعلم، بل إن الدين هو مؤسس العلم بمعنى ما، لأنه هو الذي يربط المجتمع بمعايير معينة، "بل إن القانون والأخلاق والفكر العلمي نفسه نشأ عن الدين وامتزج به مدة طويلة"[23]، فكيف يقصي العلمُ الدين؟ هذا على التسليم بأنهما يقعان في نفس الدائرة، "فالدين نظرة معينة إلى الحياة وهو يعني نظاما محددا يقوم على أساس تلك النظرة المعينة إلى الحياة، أما العلم فهو دراسة العالم المحسوس الذي يخضع أو يمكن أن يخضع لتجاربنا ومشاهداتنا"[24]، فالدائرتان مختلفتان، حتى على التسليم بأن العلم وصل إلى الغاية القصوى التي تكفي لسد الحاجات الإنسانية كما هو دور الدين.
5- الصدام بين العلم والدين لم يكن موجودًا في تاريخ البشرية قبل القرن الثامن عشر والتاسع عشر، فهو نتاج لمجتمع معين، بينما دائرة القيم والدين ودائرة الخبرة والتجربة كانتا حاضرين في تاريخ الإنسانية بالتوازي، وإن كان هناك تقاطع إيجابي، كالاستدلال من المشاهدات الفطرية لنظام الكون على وجود خالق. إن ما حدث في هذين القرنين ما هو إلا زيادة في الخبرة البشرية عن "وسيلة" الله في تحقيق مراده، ولا يمكن لهذه الوسيلة أن تستغني عن الفاعل والمدبر، فالطبيعة لا تفسر الكون، إنما هي نفسها في حاجة إلى تفسير.
فالحاصل أن التفسير الاجتماعي للدين هو مجرّد تنظير لا دليل عليه، إن لم يكن مصادما للحقائق الظاهرة عن تدين المجتمعات وتعاملها مع الدين منذ القدم، كما أن التفسير الاجتماعي يقوم على عناصر أعقد من التفسير الإلهي للدين، أي بأن الله لم يترك الناس سدى منذ خلقهم، بل أرسل إليهم رسلا على فترات محسوبة، لتوجيه الناس نحو الله، من حيث العبادات والأخلاق والاعتقاد، وهو ما يظهر على خط التاريخ بوضوح، فكل المجتمعات -كما تقدّم النقل- لها مقدّس ديني غيبي، ولا يمكن ذلك إلا بتفسيرين بسيطين:
- أن يكون الدين من طبيعة الإنسان، وليس أمراً عارضاً أو ناجماً عن خوف أو ما شابه.
- أن الله أرسل الرسل لإيقاظ هذه الطبيعة أو الفطرة، لا سيما عند انتشار الاعتقادات الفاسدة والأهواء، وذلك كي لا ينسى الناس هذه الفطرة.
[6] من الطبيعي أن تجد في مجتمع بعض الأفراد "الذاهلين" –تعبير للشيخ دراز أستحسنه - عن مثل هذه الأسئلة الوجودية، ومن الطبيعي أن تجد في مجتمع من دفعته شهواته لإنكار أي التزام ديني، لكن لا يمكن أن تجد مجتمعًا "ذاهلًا" عن الله، إلا لو كان هناك عناد جماعي (كما في الحديث الصحيح: لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله، الله) أو أي نوع من القصور في الإدراك. يقول ابن تيمية: "إن جحد الضروريات قد يقع كثيرًا عن مواطأة وتلقين في الأخبار والمذاهب، فالعبرة بالفطرة السليمة التي لم يعارضها ما يغيّرها". مجموع الفتاوي 29/15
[18] انظر مثلا: Why Would Anyone Believe in God?
وانظر أيضا لتأكيد علم النفس على التفكير الغائي عند الأطفال في دراسة:
Why Are Rocks Pointy? Children’s Preferences for Teleological Explanations of the Natural World. By Deborah Kelemen.