هل يمكن الفصل بين العلم واللاعلم؟
معيار قابلية التحقّق نموذجًا
بقلم رضا زيدان.
بات العلم التجريبي المعتمد الأوّل في الفكر الحديث، فبعد أن تصاعدت الإسهامات التجريبية منذ عصر نيوتن في شتّى مجالات العلوم الطبيعية وبانت تباشير النجاح أصبح العلم هو معيار "العقلانية"، ومعيار "الحقيقة"، والفعالية العظمى التي تشكّل وتعيد تشكيل العقل والواقع المعاصرين، يومًا بعد يوم وإلى غير نهاية[1]، وذلك بعد أن كانت التجربة إحدى سبل "المعرفة الإنسانية"، وبعد أن كانت وسيلة إجرائية. والفرق بين المعرفة الإنسانية والعلم التجريبي الاستقرائي كبير، فالمعرفة أولًا أعمّ من العلم التجريبي، وثانيًا هي أساس العلم التجريبي. فقد أظهرنا في مقالنا الآخر اعتماد العلم التجريبي على الحسّ المشترك أو معرفة الإنسان العادي، وأن العلم منجز سياقي، سواء بمعنى أنه نتج في ظروف معينة في الحضارة الغربية أو بمعنى أن التحقيق فيه يعتمد على سياق معيّن من الأدوات ومن الأفراد (العلماء) القائمين على فهم التجارب والمتأثرون بعوامل اجتماعية شتى، لكن نحن هنا لا نبحث في هذه العوامل، إنما نتحدّث فيما بعد ذلك، أي لو سلّمنا أن العلم التجريبي هو المعرفة الصحيحة وحدها فهل يمكن فصله وتمييزه عن باقي أشكال المعرفة؟ بعبارة أخرى: لو كان العلم التجريبي هو المصدر الوحيد للمعرفة وأن ما سواه ميتافيزيقا وخرافات، فهل يمكن قيام هذا العلم دون هذه "الخرافات"؟ هذه مشكلة من أكبر مشاكل فلسفة العلم[2]، بل هي جوهر فلسفة العلم، وتسمى: Demarcation problem أو مشكلة الفصل، ويعتبرها فيلسوف العلم الأشهر كارل بوبر: "مفتاح أغلب المشكلات الأساسية في العلم"[3]، ومن أشدّ ما يدلّل على أهمية هذه المسألة هو أن تأثير داروين لم يكن في نظرية علمية بقدر ما كان وسيلة منهجية لطرد نظرية الخلق من العلم، "يجد القارئ لأصل الأنواع أو رسائل داروين التالية له أنه يستشهد بعدد من الأفكار عن ما الذي يعتبر تفسيرًا علميًا، لكي يقول إن نظرية الخلق غير علمية، لأن النظرية التي في ذهنه وأسس لها (أو المعيار بين العلم واللاعلم) هو الاستناد إلى التجريب، وكثيرًا ما يستشهد الداروينيون بمعيار ما لإقصاء القول بالخلق الإلهي.
ثم تعددّت المعايير التي تفصل بين العلم واللاعلم، وقدم الماديون بمختلف أصنافهم هذه المعايير لتمجيد العلم ونبذ الميتافيزيقا أو الأديان أو النشاطات البشرية الزائفة كالتنجيم، رغم أن الواقع يقول إن كثيرًا من العلماء حفزهم دينهم على البحث، كما أن عددًا من رجال الدين كانوا علماء.. كما أن الاعتقاد بأن الله خير مطلق يشكّل دعامة للفرض القائل إن تجاربنا الحسية يمكن أن تزوّدنا بمعلومات عن العالم"[4]، ويقول أينشتاين: "الشعور الديني من أنبل وأقوى الحوافز على البحث العلمي"[5]؛ فلا يمكن أن نعادل بين الدين والتنجيم مثلًا. لكننا سنفحص هنا المعيار الأشهر والأشد تأثيرًا وهو معيار القابلية للتحقق، وقد قدّمه مجموعة من التجريبيين شكّلوا حلقة في فيينا عرفت فيما بعد باسم "الوضعية المنطقية"[6]، تجعل العلم قائمًا على المنطق فقط دون غيره من المعارف، وليس الإشكال هنا، الإشكال في أنها فرّغت المنطق من ضرورته كما سيأتي. وقد ساد هذا المعيار في النصف الأوّل من القرن العشرين، لكنّه أثّر بعمق إلى الآن. فما هو هذا المعيار؟
إن المنطق مشكلة عويصة على كل من يحصر المعرفة بالتجربة والحسّ، لأن قضايا المنطق صحيحة دائما، فعبارة 1+1=2 صحيحة بصرف النظر عن التجربة، فأي عالم لا بدّ أن تكون هذه العبارة صحيحة عنده؛ فمن الواضح أنه أعم من العلم التجريبي، فمن أين هذا المنطق الشامل؟ كيف يمكن للإنسان - الكائن المادي طبقًا للمادية - أن يدرك ما يتجاوز التجربة المباشرة؟ قدّم الوضعيون حلًا لهذه المشكلة، فقد قسّموا العبارات (المعارف) إلى عبارات لها معنى وعبارات لا معنى لها. أما التي لها معنى فهي المنطق والرياضيات والجمل التي يمكن اختبارها والتحقّق منها، ومن هنا جاء مصطلح معيار التحقّق، وعلى الباحث التجريبي التحقّق تجريبيًا من كل عبارة في أبسط صورها تحليلًا. أما التي لا معنى لها فهي كل ما عدا ذلك، فلو قلنا إن الله موجود فهذه العبارة خاطئة بناء على تصوّر معيار التحقّق أو الوضعية المنطقية للعلم، وعبارة "ما أجمل العدل" لا معنى لها، لأنه لا يمكن التحقّق منها!
يلاحظ القارئ ابتداءً أن هذا لا يحلّ مشكلة عمومية المنطق، ولذا جعلت الوضعية المنطقية المنطق الفطري كالجزء أصغر من الكل لا محتوى معرفي تحته، أي لا يخبر عن الواقع، بل مجرّد صيغ يوافق الناس عليها لفهم العالم، وهو ما لا دليل عليه، لأن المنطق أسبق وأعم من التجربة، والتجربة لا تعلّم الناس العموميات أصلًا، كما أن الاتفاق يستلزم معرفة مسبقة بما سيتوافق عليه، "فهذا القول يعني أن الناس مرّوا بمرحلة كانوا يدركون معاني الرموز قبل أن يدركوا قواعد المنطق، وهذا ليس صحيحًا لأن المنطق أسبق من اللغة"[7]، ولن نطيل هنا لأنه ليس موضوعنا[8]، الفكرة الرئيسية هي هل نجحت الوضعية المنطقية في التمييز بين القضايا التي يمكن اختبارها والقضايا التي لا معنى لها، بشكل آخر: هل العلم خالي تمامًا من أي محتوى بديهي أو فطري أو ميتافيزيقي؟ وإجابة هذا السؤال كامنة في النقد التالي لمعيار التحقق.
نقد معيار القابلية للتحقق:
1- معيار التحقّق نفسه لا يمكن التحقّق منه تجريبيًا، وأكبر الأدلة على ذلك أن كتاب لودفيج فتجنشتاين "رسالة منطقية فلسفية" والذي يعتبر إنجيلا للوضعية المنطقية لم يجد تدليلًا منطقيًا على صحة المعيار، وبالطبع لا يمكن التدليل عليه تجريبيًا، فما استطاع إلا جعله سُلّمًا نصعد عليه إرشاديًا لنصل إلى الموضع المراد! أي بعبارة أخرى عبارة "معيار التحقّق معيار صحيح" لا معنى لها، ومع ذلك علينا أن نؤمن بها إيمانًا دينيًا[9].
2- العلم التجريبي يقوم على الفروض، فالفرض أسبق من التجربة، ولا يمكن تجربة كل الفروض، "خاصة إذا علمنا أن الفرض بوصفه قضية قد لا يستطيع العلم التحقّق من صحته أو بطلانه، ولكن الفرض في الوقت ذاته يمكن أن يقدم فائدة كبيرة لتطوّر العلم، دون اعتباره ميتافيزيقا"[10]؛ فإن قبلت الوضعية المنطقية الفرض لكونه مفيدًا علميًا دون الدين فهذا تحكّم، لذا قال كارل بوبر منتقدًا هذا المعيار: "استخدام هذا المبدأ كمعيار لن يؤدي إلى استبعاد القضايا الميتافيزيقية فحسب، بل سيؤدي إلى استبعاد معظم القضايا العلمية الهامة"[11] وعلى ذلك: "استخدام علماء الأحياء للتمييز بين العلم واللاعلم مشكل ويثير السخرية من وجهة نظر فلسفة العلم، لأن الكثير من تطبيقات هذا المعيار المستخدمة ضد النظريات غير الطبيعية (كالخلق) يمكن أن تستخدم بنفس التأكيد ضد النظريات التطورية المادية البحتة"[12].
3- حتى القضايا البسيطة ككلمة: الماء يغلي عند درجة حرارة 100، "لأن كل وصف يستعمل أسماء كلية مما يجعل لكل قضية معنى ما، فكلمة الماء لا يمكن أن تحقّقها أي خبرة ملاحظة، والسبب في ذلك هو أن الكليات التي ظهرت فيها لا يمكن أن تقتصر على أي خبرة حسية محدودة؛ فكلمة "ماء" تشير إلى أجسام فيزيائية تعرض ما يشبه القانون في السلوك"[13].
4- لا يمكن تعقّب كل المعلومات حتى نصل إلى أبسط صورها الحسية، للأسباب التالية:
أ- عملية تعقّب أية معلومات إلى أسسها النهائية حتى وإن كانت تجريبية مستحيلة، فإذا حاولنا سندخل في سلسلة من الإجراءات المملة المعقّدة الشاقة، ونجد موضوع البحث في النهاية قد ازداد واتّسع، ككرة من الجليد تتدحرج فوق الثلج، هناك استحالة نظرية في تطبيق المعيار سيتشعب بدلا من أن ينحل، كما يظن الوضعيون إلى سلسة ملاحظات حسية بسيطة.
ب- حتى الملاحظة الحسية هي في حدّ ذاتها تتضمّن تأويلًا، أي أنها مصبوغة بمعرفة الملاحظة (فالعلم ليس موضوعيًا دون غيره من النشاطات الإنسانية)، أما الملاحظة الخالصة فمستحيلة، وإن أمكنت فهي عقيمة غير مثمرة، بعبارة أخرى: التجريبية ليست محض مدركات حسية، بل فيها شيء آخر أضفاه الذهن.
ج- محاولة تطبيق المعيار ستبطل ما أسماه أينشتاين بالمهمّة العليا للفيزيائي، مهمّة البحث عن الأسس النظرية العامة[14].
وبجمع هذه النقاط الفرعية هنا نقول: فكرة ضرورة التحقق من الكلمات كي تكون ذات معنى يعني أننا نحدّد بدقة الدلالات الحسّية للكلمة قبل استعمالها؛ فالاستعمال حينئذ لن يكون إلا تركيبات منطقية لا تتناسب مع الأغراض العلمية، فاللغة الوضعية تسدّ الطريق أمام مكتشف وقائع جديدة، فهي غير ملائمة لفكرة الأفق الواسع للفرضيات المبتكرة، لأن اللغة الوضعية محدّدة سلفًا بدقة مفاهيم كلماتها، فكيف يعبر العالم عن فرضه الميتافيزيقي؟[15]
4- التغيّر المنهجي السلبي على العلوم الإنسانية؛ فالعلوم الإنسانية إذا عوملت بهذه الطريقة سيلحقها ضرر شديد، فعلم النفس مثلًا وفق المنهج الوضعي سوف يتعلق بالسلوكيات الملحوظة فقط وتجريبها، واكتساب خبرة معرفية من ذلك، حتى قيل إن دراسة السلوكيات فقط هي علم نفس بلا نفس، وهو وصف بالغ الدقة؛ فجميع ما طُبّق على الحيوان طبّقه السلوكيون على الإنسان.
5- الميتافيزيقا يستحيل أن تكون لغوًا؛ نعم، كانت هناك أفكار ميتافزيقية (خرافية وليست دينية) قامت بإعاقة كبيرة للعلم والتجربة، لكن هذا لا يجعلنا نعمّم ونرفض الجزء الميتافيزيقي الضروري في التقدّم العلمي؛ فحديث الفيلسوف اليوناني ديمقريطس (360 ق.م) عن الأجسام التي لا تقبل الانقسام وغيره، والذي أهمل قرونًا طويلة إلى أن قال به المعاصرون ليشاركوه نفس النصيب من الصحة، وغير هذا الكثير. وفرض كوبرنيقوس لمركزية الشمس كان تأويلًا لفكرة ميتافيزيقية في الأفلاطونية. وكذلك تأمّلات أينشتاين مما يطول ذكره؛ فالأمثلة كثيرة في إثبات ضرورة الميتافيزيقا في التقدّم العلمي وتوسيع الخيال[16].
ويكفينا في الأخير التأكيد على أن كافة معايير الفصل بين العلم واللاعلم قد فشلت، وعليها انتقادات كما على معيار قابلية التحقّق، وكما أوجز مارتن إيجر: "لقد انهارت معايير الفصل، فلم يعد يتمسّك بها فلاسفة العلوم. نعم ما زال لديها قبول في الأوساط الشعبية، لكن هذا أمر آخر"[17]. "ونشر فيلسوف العلم الكبير لاري لودان مقالًا مؤثّرًا بعنوان "موت مشكلة الفصل"، عالج فيه سؤال التمييز، وأحدث حينها ضجة كبيرة نظرًا للمكانة التي يحظى بها الرجل في الأوساط العلمية والفلسفية.. وفيها: لكي نُحسب من عداد العقلاء علينا أن نسقط من معاجمنا مصطلحات من نوع "علم زائف" و"غير علمي"، إنها تعبيرات جوفاء تقدّم لنا خدمة عاطفية فقط"[18].
وبشكل آخر: لا يمكن الفصل بين النشاط العلمي وأي نشاط بشري آخر أو تفضيله عليه بادّعاء موضوعية العلم، لأنه كما يقول عالم الحفريات التطوّري ستيفن جولد: "لم تصل السذاجة بأكثرنا إلى حد الإيمان بالخرافة القديمة التي تدّعي أن علماء العلم الطبيعي نماذج مثالية للموضوعية غير المتحيّزة، وأنهم منفتحون بدرجات متساوية على كافة الاحتمالات، ويصلون إلى استنتاجاتهم فقط على ميزان الدليل ومنطق الحجة، نحن ندرك أن التحيزات والتفضيلات والقيم الاجتماعية والمواقف النفسية كل ذلك يلعب دورًا قويًا في عملية الاكتشاف"[19].
ويقول عالم الاجتماع نوربرت إلياس: "العلماء المشتغلون بدراسة الطبيعة هم إلى حدّ ما مثل الناس الآخرين، مدفوعون نحو مهامهم بواسطة أمنياتهم وأغراضهم الشخصية، إنهم متأثّرون إلى حد كبير بحاجات الجماعة التي ينتسبون إليها، فربما أرادوا تعزيز سيرتهم المهنية، وقد يراودهم الأمل في أن تتماشى نتائج أبحاثهم مع نظريات صدعوا بها من قبل، أو مع متطلّبات ومُثل المجموعات التي يعرّفون أنفسهم من خلالها"[20]
[2] يؤثر عن هايدجر قوله إن العلم لا يفكّر في ذاته، أي أنه لا يلتفت إلى ماضيه بل يصحّح ذاته ويجدّد نفسه في مسار لا ينقطع، لكن بقدر ما نجح العلم كنتائج وتطبيقات لم ينجح العلم في تسويغ نفسه، أو قيامه على أساس متين من المعرفة، يبحث الحقل الأكاديمي "فلسفة العلم" في طبيعة العلم، وأسسه وعلاقة ذلك بنظرية المعرفة، واختبار افتراضاته ومضامينه وصحة المقولات العلمية، وطرق الاستدلال وبشكل عام تتكفل بعبء التفكير في العلم نفسه. ومن أشهر فلاسفة العلم كارل بوبر وتوماس كون وإيمري لاكاتوس وغيرهم.
راجع كتاب فلسفة العلم مقدمة معاصرة، لأليكس روزنبرغ.
[12] Science and Evidence for Design in the Universe, By William Dembeski, Stephen Meyer and M.Behe. p.178
[17] Science and Evidence for Design in the Universe, By William Dembeski, Stephen Meyer and M.Behe. p185