title3

 banner3333

 

هل يمكن تفسير الوعي ماديا؟

 

هل يمكن تفسير الوعي ماديا؟ 

بقلم رضا زيدان. 

  ما هو العقل الإنساني؟ وكيف يدرك العالَم؟ وهل للأفكار والمشاعر والرغبات الانسانية طبيعة مادية؟ هل لو علمنا آلية عمل المخّ يمكننا الوصول مباشرة للعقل؟ وهل يمكن للعقل أن يتطوّر؟ وعلى فرض تطوّره فهل يمكن الثقة في أحكامه؟ 

  اختلف الفلاسفة على مر العصور في طبيعة هذا الكيان الغريب الذي يسمّى "العقل" (mind)، وانقسموا إلى تيارين رئيسيين:  

  التيار القائل بالثنائية: أي الذي يقول بأن الإنسان مركّب من جسم وعقل، ولا يمكن اختزال العقل في "المخّ" (أي العمليات العصبية المادية)، وأشهر من قال بذلك: أفلاطون وديكارت. لكن لديكارت تأثير أكثر من غيره، نظرًا لأنه أوّل من قدّم تفصيلًا لكيفية ارتباط العقل بالجسم من خلال الغدة الصنوبرية، وهو أوّل من اعتبر الكائن عقلًا غير ملموس ولا يمكن الإحساس المادي به، لأنه غير ممتد زمانيًا ولا مكانيًا.  

  التيار القائل بالأحادية: أي الذي يقول بأن الإنسان مجرّد مادة[1]، بما في ذلك العقل ومحتوياته، كالرغبات والمشاعر والأفكار. وقديمًا أخذ الفيلسوف اليوناني ديموقريطس بهذا المذهب، وسمّي المذهب الذري؛ فهو يعتبر أن كل شيء مكوّن من ذرات. والمذهب المادي قريب من تصوّراته، لكن بمحتويات عصبية في المخ. وبعض الأحاديين ينكر وجود المشاعر والرغبات أصلًا؛ فالألم عنده هو مجرّد استجابة حسية عصبية لمؤثّر ما (السلوك)، ومن ثم فالبشر طبقًا لهذا التصوّر مجرّد آلات، لا مشاعر ولا رغبات ولا أي شيء عقلي. ويلتزم بعض معتنقيه بنفي الإرادة الحرة تمامًا؛ فالبشر مجرّد زومبي يحرّكه الجينات والخلايا العصبية.

   وأغلب المناخ المعاصر يرجّح الإنسان الأحادي، متمثلًا في التيار "المادي الإقصائي" (Eliminative materialism) أو الفيزياء الاختزالية (Reductionism). 

   وهدفنا في هذا المقال هو بيان أن الأحادية لم تفلح مطلقًا في تفسير الوعي أو العقل بشكل عام، وذلك من خلال عرض حجج الثنائية التي تبرز قصور المادية الاقصائية.  

   من حجج القائلين بالثنائية: 

   1- أن العقل لا يمكن تجزئته؛ فقد يفقد الإنسان عضوًا من جسمه أو قد يولد بلا ساق مثلًا ومع ذلك هذا لا يؤثّر في كونه إنسانًا كامل الإنسانية؛ يقول الغزالي: "إنك تعلم أن نفسك منذ كنت لم تتبدّل، ومعلوم أن البدن وصفات البدن كلها تتبدّل، إذ لو لم تتبدّل لكان لا يتغذى، لأن التغذّي يحلّ بالبدن بدل ما تحلّل؛ فإذا نفسك ليس من البدن وصفاته في شيء"[2]. 

   2- إمكان تصوّر العقل مستقلًا عن الجسد[3]، حيث يمكن تصوّر العقل ليس في هذا البدن، كالطائر كما يسمّيه ابن سينا، ويعتبر ديكارت هذا الإمكان دليل على أن العقل ليس هو الجسد (أو تحديدًا: ليس هو العمليات العصبية القائمة في المخ). 

   3- الإدراك العقلي (وهي الحجة الأقوى حاليًا لذا سنركّز عليها):  

   تعتمد هذه الحجة على أن العقل يستطيع إدراك المعاني الكلية المجرّدة من كل طابع حسي، والتي لا تنقسم انقسامًا ماديًا، فإن معنى الإنسان مثلًا مجّرد من كل صفة جسمية، وهو يحتوي على بعض المعاني الجزئية كالحيوانية والنطق، حقًا إنه ينطبق في الواقع على كثرة من الأفراد، لكنه لا ينقسم في النفس بطريقة مادية، ولا يشغل فيها حيّزًا، وذلك لأنه لا يحلّ فيها إلا مجردا من الصفات العرضية التي تميز أحد الأفراد عن الآخرين، وإذا كانت النفس محلًا للمعقولات فإنه يجب أن تكون من جنسها أي غير منقسمة، وإلا لوجب أن يحل غير المنقسم في المنقسم، وهو تناقض ظاهر[4] 

   يقول الغزالي: "العين تدرك من الأشياء ظاهرها وسطحها الأعلى دون باطنها؛ بل قوالبها وصورها دون حَقائقها. والعقل يتغلغل إلى بواطن الأشياء وأسرارها ويدرك حقائقها وأرواحها، ويستنبط سببها وعلتها وغايتها وحكمتها، وأنها ممّ خلق، وكيف خلق، ولِم خلق، ومِن كم معنى جمع وركّب، وعلى أي مرتبة في الوجود نزل"[5]. 

   أما الحجة الأولى والثانية فالنقاش قد تجاوزهما حاليًا، خلافًا للحجة الثالثة وهي الإدراك العقلي، فهي الحجة الحاضرة بقوة في فلسفة العقل المعاصرة، ويمكننا إعادة صياغة جزء من الحجة السابقة في ضوء هذا النقاش المعاصر كالتالي: 

   كيف يمكن لعمليات عصبية مادية أن تدرك محتويات غير مادية كالأعداد والكليات والمنطق وغير ذلك من المحتويات التي تشمل الأجسام المادية وغير المادية بل تشمل أيضا المستحيل ماديًا؟  

   بصورة أدق: كيف استطاع العقل التمييز بين الوجود الفيزيائي والوجود الرياضي؟ فهناك احتمالات كثيرة جدًّا للمعادلات والأحداث، ومع ذلك الوجود الفيزيائي إطار ضيق جدًّا، وكذلك كيف استطاع العقل أن يميّز بين المستحيل فيزيائيًا والمستحيل عقليًا؟ فمن المستحيل فيزيائيًا فقط أن يطير الإنسان، ومع ذلك من المتصوّر أن يكون إنسانًا طائرًا بلا تناقض منطقي أو استحالة عقلية، على عكس عجزنا عن تصوّر إمكان أن 1+1=4 مثلًا.  

   كيف استطاع العقل أن يستنبط من مجرّد أمثلة قواعد ثابتة؟ فالاستقراء الذي هو أساس العلم ليس إلا تتبّع بعض الجزئيات (كمشاهدة أن بعض المعادن تتمدّد بالحرارة) ثم الحكم العام الذي لا يمكن أن يبرر ماديا (المعادن تتمدد بالحرارة). 

   ويمكن توضيح ما سبق بالصورة التالية المقتبسة عن منتدى التوحيد:  

 

 

    أما الجانب الآخر من جوانب الإدراك العقلي وشموليته فهو الوعي بالإدراك نفسه، فالإنسان ليس مجرّد آلة تعالج المعلومات، بل كيان يدرك المعلومات، ويستحيل تفسير هذا تطوّريًا؛ فالحيوانات كالعناكب مثلًا لا يضرّها أنها تستجيب آليًا لجيناتها وتبني بيوتها فطريًا دون وعي بهذا البناء. أما الإنسان فقد متّعه الله بهذا الوعي الذاتي، وهو ما لا يمكن تفسيره بيولوجيًا، لأنه ليس هناك حاجة بيولوجية لمثل هذا الوعي، ولا لأي قدرات إدراكية عليا عند الإنسان.  

   يقول البروفسور الأمريكي نوام تشومسكي: "كيف اكتشف الإنسان النظرية الكمية؟! فلا تقدّم التجربة أي إرهاصات للمشاكل التي ستقابلنا في العالم (كحالة العناكب مثلًا)، كما لم تكن القدرة على حّل المشكلات عاملًا في التطوّرية النشوئية! لذلك لا نقتنع بهذا التفسير الغيبي لكي نفسّر توافق أفكارنا مع الكون، بل إنها فاجأة محظوظة أن نجد هذا التوافق الجزئي بين أفكارنا والعالم"[6]. 

   ويقرّ عالم الفيزياء الملحد ليوناردو مولدينوف بأنه ليس هناك تفسير فيزيائي للوعي في فيديو شهير له[7]. 

   أما الجانب الأخير من استحالة تفسير العقل ماديا فهو ذاتية الوعي، أو لغز الخبرة الواعية، أو ما يسمى الكيفيات المحسوسة (Qualia)[8]، ويشرح ذلك فيلسوف العقل المعاصر ديفيد تشالمرز فيقول: "إن من الممكن أن نعرف ونعلم كل المعلومات الموضوعية عن شيء ما، مثل حالات الدماغ وأطوال الموجة المتعلّقة برؤية اللون الأحمر، ولكن لا توجد معلومات أساسية حول وصف الحالة المرافقة للشعور عند رؤية اللون الأحمر"، ويقول: "لقد تجنّب الباحثون الخوضَ في موضوع الوعي سنوات عديدة عند دراسة الدماغ والعقل. وكانت النظرة السائدة أن العلم الذي يعتمد على الموضوعية لا يستطيع استيعاب شيء بهذا القدر من الذاتية subjectivity مثل الوعي. فقد ركَّزت الحركة السلوكية في علم النفس - التي سادت في بواكير هذا القرن ـ على السلوك الخارجي، ولم تسمح بأي حديث عن السيرورات العقلية الباطنة. وبعدها أدّى ظهور علم المعرفة cognitive science إلى تركيز الانتباه على السيرورات التي تجري داخل الرأس. أما الوعي فقد بقي ومازال خارج إطار التناول"[9] 

   وهناك مقال مشهور للفيلسوف الملحد توماس ناجل بعنوان: ما هو الشعور أن تكون خفاشًا؟ (What Is It Like to Be a Bat) بيّن فيه كيف أن العلم الطبيعي عاجز تمامًا عن تفسير هذه الظواهر الذاتية. 

   وابتكر فيلسوف نمساوي تجربة ذهنية لشرح هذا الشعور أو الخبرة الذاتية، فافترض أن ماري عالمة أعصاب في القرن الثالث والعشرين وتتميّز بكونها خبيرة عالمية رائدة في عمليات الدماغ المسؤولة عن رؤية الألوان. ولكن ماري أمضت عمرها كله في غرفة بالأبيض والأسود، ولم تر قط أي لون آخر. إنها تعرف كل شيء ينبغي معرفته عن السيرورات الفيزيائية في الدماغ (بيولوجيته وبنيته ووظيفته). إن هذا الفهم يمكِّنها من أن تستوعب كل شيء ينبغي معرفته عن المشكلات السهلة: الطريقة التي يميّز الدماغ بها المنبهات، ويكامل بها المعلومات، وينتج بها التقارير اللفظية. ومن معرفتها برؤية اللون فهي تعرف الطريقة التي تقابل بها أسماء الألوان الأطوال الموجية في الطيف الضوئي. ولكن يبقى هناك أمر أساسي حول رؤية اللون تجهله ماري: ألا وهو ما عساها أن تشبه خبرة لون ما كالأحمر. وهذا يعني أن هناك حقائق عن الخبرة الواعية لا يمكن استنباطها من الحقائق الفيزيائية المتعلقة بوظائف الدماغ. 

   وقد فشلت النظريات المادية الأحادية تمامًا في تفسير الكيفيات المحسوسة. وأهمّ هذه النظريات: نظرية الهوية، حيث يذهب أنصار هذه النظرية إلى أن الشعور بالألم مثلًا هو نفسه مركز الشعور بالألم في المخّ، لكن يشكل على هذه النظرية أن هناك حيوانات ليس لها نفس مركز الشعور الإنساني ومع ذلك تتألّم. ولحلّ ذلك ابتكرت نظرية الهوية الرمزية (token)، فتقول هذه النظرية أن من الممكن أن يكون هناك مكوّنات أخرى داخل جسم ما غير مركز الألم الإنساني، ومع ذلك يشعر بالألم. ويقال ذلك مقابل الهوية النوعية السابقة، التي تحصر الألم بمركز الألم في الإنسان فقط. وعلى الوجهين (الهوية النوعية والرمزية) تنكر نظرية الهوية أخصّ شيء في الحالات العقلية، وهو الشعور نفسه بحالة الألم، لذا لم تقنع الكثير من العلماء.  

   وقد دلّل الكثير من المتخصّصين التجريبيين على تجاوز العقل لنطاق العمليات العصبية الدماغية، نذكر على سبيل المثال:  

   1- يقول تشارلز شرنجتون - رائد فسيولوجيا المخّ والجهاز العصبى، والحاصل على نوبل عام 1932م -: "إن عملية التغذية والأيض والنمو هي ظواهر تقع داخل نطاق القوانين الفزيائية والكيميائية، أما العمليات العقلية فهي تتجاوز تلك القوانين"[10]. وهذا القول له مكانته، لأنه صدر عن عالم متخصّص في الانعكاسات العصبية. 

   2- دلّل ولدر بنفيلد (من أشهر جراحي الأعصاب) على صحة النظرية الثنائية للعقل والمخ، وذلك بعد جمع العديد من الملاحظات السريرية على المرضي مفتوحي الدماغ ووضع تلك الملاحظات في كتاب أسماه بـ "غموض العقل The Mystery of Mind"، واستدلّ بنفيلد على الفروق بين العقل والمخ من ملاحظاته على استجابات المرضي الذين يتعرّضون لتنبيهات دماغية، إذ لاحظ أن هناك تعارضٌ ين الاستجابات العصبية وإرادة الشخص. وهذا التعارض يدلّل على وجود اختلاف بين خصائص العقل وخصائص المخ؛ فلو أن المخّ يمثّل العقل لكانت الإثارة المخية تعكس ما يريده الشخص. ولكي تتّضح هذه الصورة وتبرهن قام بنفيلد بتنبيه للمركز العصبي الخاص بحركة اليد وكنتيجة طبيعية تحركت يد المريض، إلا أن الأمر الذي ينطلق منه بنفيلد هو ما عبّر به المريض من قوله بأن يدي تحركت رغمًا عني. وهذا يعني في وجهة نظر بنفيلد أن هناك إرادة ترفض هذه الحركة توجد خارج المخّ والذي عبّر عنه بالعقل. كذلك قام بنفيلد بتنبيه مركز الكلام وعلى إثره عجز المريض عن إخراج الكلمات بمعنى أن بنفيلد كان ينبّه مركز الكلام ويطلب من المريض أن يتلفظ بكلمة "فراشة" مثلًا، وكنتيجة طبيعية عجز المريض عن القول بذلك مع رغبته وتحفّزه للتلفّظ بها. وبعد أن أوقف بنفيلد تنبيه تلك المنطقة قال المريض بصوت عالي وكأنه فكّ من عقال "فراشة". وهذا الأمر في وجهة نظر بنفيلد يشير من جانب إلى صراع المخّ مع الإرادة "العقل". وبالجملة، فإن مجموعة تلك الملاحظات السريرية تؤكّد على أن مركز العقل لا يخضع لجوانب مادية صرفة. 

   3- تبنّى جون إيكلز (من روّاد مجال فسيولوجيا الأعصاب، وحاصل على نوبل عام 1963) النظرية الثنائية أيضًا، ووضع نظريات متخصّصة تقوم على انفصال حقيقي بين المخّ والعقل، ووضع لذلك براهين عديدة نذكر اثنين منها: 

   - الحركات الإرادية تحدث قبل النشاط الدماغي للقشرة الحركية بحوالي ثانيتين. الأمر الغريب هنا أنه إذا كان مصدر إرادة الحركة هي القشرة المخية فإنه من المفترض أن يسجّل النشاط الكهربائي في القشرة الحركية قبل حدوث الحركة، إلا أن الأمر الذي حصل هو العكس تمامًا. حدث هذا الأمر أيضًا في وظيفة الكلام، إذ لاحظ  كورنبر أن النطق بالكلام عملية تسبق زيادة نشاط مركز الكلام الدماغي. ويستنتج إيكلز من هذه الدراسة إلى أن هناك أمرٌ مجهولٌ يعمل كوسيط بين المخّ والحركة الإرادية، وبين المخّ والكلام وهو ما نعني به في المفهوم البسيط: جانب الإرادة. وعلى هذا يؤكّد إيكلز أن المخ شيء والعقل شيء آخر. 

   - عندما تتعرّض القشرة الحسية إلى استثارات كهربائية كانت النتيجة وجود زمن تأخيري يقدّر بنصف ثانية بين استثارة القشرة المخّية بشكل مباشر وحصول الشعور بالإحساس. وهذا الزمن التأخيري هو المحكّ الذي يرتكز عليه إيكلز في استنتاجه بوجود فارق بين المخّ والعقل.وينطلق إيكلز في استنتاجه هذا من مبدأ أنه إذا كانت القشرة الحسية هي المكان الذي يتمّ فيه ترجمة الإحساسات الجلدية فإنه من المفترض أن تنبيهها بشكل مباشر يؤدّي مباشرةً إلى الشعور بالإحساس دون أن يكون هناك زمن تأخيري. إلا أن هذا الافتراض لم يتحقّق تجريبيًا مما يؤكّد أن الشعور العقلي لا يقتصر وجوده على مادة المخّ، بل إن هناك دور مكمّل لعمل المخّ، وهو العقل الذي ليس له مظهر مادي[11]. 

   ومن الدراسات الفلسفية المهمة التي تعارض مادية الوعي: 

   دراسة الفيلسوف ديفيد تشالمرز؛ وموضوع هذه الدراسة هو الإقرار بغموض الخبرات النفسية، خصوصًا ظاهرة الوعي. وساق شالمرز عددًا من الأدلّة تؤكّد أن الجانب الذي التفتت إليه الدراسات العصبية في موضوع الوعي جانب ناقص، لأنه انحصر على الجانب الفيزيقي. وهذا يعني أن هناك رؤية ضيقة تتعلّق بمسألة الوعي على أساس أن طبيعة العمليات النفسية ليست مثل طبيعة العمليات الفيزيقية[12]. 

   بل دلت براهين علماء الفيزياء على غموض الوعي؛ فقد ناقش العالم الفيزيائي وينبرج في كتابه المسمى بكتاب "أحلام النظرية النهائية" إمكانية ضمّ القوانين الطبيعية تحت قانون أوحد. ويشير وينبرج بأن ثمّة يوم قادم سيتمكّن العلماء فيه من الكشف عن العلاقات بين جميع القوى الطبيعية، والعمل على إيجاد قانون يضمّها تحت مظلة واحدة، وسيكون هذا التاريخ موعدًا لتفسير جميع الظواهر الكونية. وفي هذا إشارة صريحة بأن العلماء سيصلون إلى صياغة قانون أوحد يوحّد مفهوم القوى الفيزيقية الأربع، وهي: القوة الكهرومغناطيسية، والقوة النووية الضعيفة، والقوة النووية الشديدة، وقوة الجاذبية. وعلى الرغم من هذا الاستبشار فإن وينبرج يستثني بشدّة موضوع له قانون محيّر لا يمكن إخضاعه للقوانين الفيزيقية، وهو معضلة الوعي الذي لا يمكن انتماؤه إلى واحد من تلك القوى[13].

      نخلص من ذلك أن الوعي لم تفلح المادية في تفسيره، سواء فلسفيًا أو علميًا.  

   مفارقة تفسير العقل داروينيًا. 

   لو سلّمنا أن العقل قد تطوّر عبر ملايين السنين، فكيف يمكن لنا أن نثق في حكمه بأن العقل قد تطوّر؟! فالظاهر أن: "كثيرًا من المؤمنين بنظرية التطوّر الدارويني لا يدركون التحدّي، بل التهديد الذي تشكّله النظرية لعقولهم التي يثقون بها ويعتمدون عليها في تصّور وجودهم، فضلًا عن الحكم عليه، بما في ذلك تصّورهم لنظرية التطوّر وأحكامهم عليها. فما هي طبيعة هذا التهديد؟ لنستمع إلى دارون نفسه حيث يقول في رسالة خاصة إلى صديقه وليام جراهام: "ينتابني دائمًا شكّ فظيع حول ما إذا كانت قناعات عقل الإنسان، والذي بدوره تطوّر من عقول كائنات أدنى، تتمتّع بأي قيمة أو تستحق أدنى ثقة"[14]. 

   وقد تنبّه إدموند هوسرل لهذا الإشكال أيضًا، فيقول: "قد تعرض للخاطر بعض الأمور من علم الحياة، فنذكر نظرية التطوّر الحديثة حيث نما الإنسان في كفاحه من أجل الوجود بحسب الانتقاء الطبيعي، فنما معه عقله بالطبع. ومع العقل سائر الصور التي هي أخصّ به، ولا سيّما الصور المنطقية. ألا يدفعنا ذلك إلى القول بأن الصور والقوانين المنطقية إن هي إلا سمة عارضة للنوع البشري، وإنها قد تكون مختلفة وتصير كذلك في سياق التطور المقبل"؟[15] 

   ويقول الفيلسوف ألفين بلانتنجا: "إن قبلت بالمادية والتطوّر معًا فسيكون لديك سبب وجيه للإيمان بأن ملكاتك المسؤولة عن إنشاء المعتقدات غير موثوقة، ولكن الإيمان بذلك يعني السقوط في شكّ تام. الأمر الذي يدرك بدون أيّ سبب لقبول أيّ من معتقداتك (بما في ذلك معتقداتك عن المادية والتطور!). السبيل المعقول الوحيد هو التخلّي عن الدعوى المفضية إلى هذه النتيجة، دعوى أن المادية والتطوّر صحيحان معا"[16]. 

   فالحاصل أن التفسير الدارويني للعقل، حتى ولو نجح، لا يمكن الثقة فيه، لأنه لن يكون هناك معيار عقلي أصلًا للحكم بالنجاح من عدمه.

 



[1] أو مجرد عقل، كما يذهب الفيلسوف باركلي والمثاليون عموما، وحجج باركلي على نفي المادة مشهورة. لكن ما يهمنا هنا هو المذهب الأحادي المادي المعاصر.

[2] معارج القدس في مدراج معرفة النفس ص33

[3] وأشهر من صاغ هذا الدليل هو ديكارت في كتبه.

[4] في النفس والعقل لفلاسفة الاغريق والاسلام لمحمود قاسم ص107

[5] مشكاة الأنوار ص45

[6] اللغة ومشكلات المعرفة ترجمة حمزة بن قبلان. ص(222)، ص (235).

[8] قد يقال إن علماء الذكاء الاصطناعي قادرون على ابتكار آلة لها وعي ذاتي، لكنّ ذلك أمر مستحيل كما أكّد الكثير من المتخصّصين في الوعي أو الذكاء الاصطناعي نفسه؛ يقول جون إكليس الحائز على جائزة نوبل: "إنه ليس هناك دليل على الإطلاق بأنه يمكن أن تكون لأجهزة الكمبيوتر نوعًا من الوعي أو الشعور الذاتي"؛ فالذكاء الاصطناعي مجرّد أوامر برمجية تنفذها آلات مادية، أما الإنسان والوعي الذاتي فأمر يختلف تماما عن البرمجيات الحديثة، بفضل هذه الكيفيات المحسوسة.

وفي رؤية مناقضة لبرمجة العقل أو تمثيله اصطناعيا قدّم جون سيرل تصوّرًا عما أسماه "برهان الغرفة الصينية "The Chinese Room Argumentصوّر فيه وجود شخص إنجليزي لا يعرف اللغة الصينية في غرفة مغلقة ولديه تعليمات كتبت بالإنجليزية. فعندما تأتيه رموز صينية فإنه يستخدم كتاب التعليمات للتعامل معها ثم يرسلها خارج الغرفة. ويتوقّع الأفراد الذين هم خارج الغرفة أن هذا الشخص يعرف اللغة الصينية وهو ليس كذلك. يشبه سيرل هذا الشخص بعمل برمجيات الذكاء الصناعي التي تتعامل مع المعاني دون أن تعي معناها. وهذا يؤكد الاختلاف الجذري بين عقل الإنسان وتلك البرمجيات.    

[10] Sherrington, C. S. (1958). The excitable cortex in conscious man. The 5th Sherrington Lecture. Liverpool: Liverpool University Press.p.237

[11] مظاهر القصور في التفسير الفيزيقي للسلوك لخالد الخميس. ص12

[13] مظاهر القصور في التفسير الفيزيقي للسلوك لخالد الخميس. ص23

[14] ثلاث رسائل في الإلحاد والعلم والايمان، عبد الله الشهري ص182

[15] المرجع السابق ص183

[16] هل الإلحاد عقلاني؟ مقابلة بين ألفن بلانتنجا وجاري جنتنج، ترجمها وعلق عليها عبد الله الشهري.