title3

 banner3333

 

المذهب الطبيعي والعلم التجريبي

 المذهب الطبيعي والعلم التجريبي 

بقلم رضا زيدان. 

   يخلّط كثير من الناس بين العلم التجريبي والمذهب الطبيعي (Naturalism)، مدّعين أن المذهب الطبيعي أمر لازم للعلم التجريبي، أو أنه لا يمكن أن يتقبّل الإنسان الفكر العلمي إلا ويتقبّل المذهب الطبيعي، أو أن الفلسفة الطبيعية هي الفلسفة الوحيدة الملائمة للمنهج العلمي. وبالتالي يصلون إلى ادّعاء أن العلم يبطل الإيمان بالله. فما هو المذهب الطبيعي؟ وهل هو العلم التجريبي؟ وهل تصح مقولة أن "العلم والدين لا يجتمعان"؟

   يشترك المذهب الطبيعي مع المادي بمعارضة كل ما هو فوق الطبيعة، ويؤكّد على أن عالم الطبيعة نظام مغلق سببيًا، أي لا يمكن التأثير فيه من خلال الإله، سواء بالحفظ والعناية أو بالمعجزات، ويعرّفه سترلنج لامبرشت - البروفسور الأمريكي - بقوله: "موقف فلسفي وطريقة تجريبية تعتبر كل ما يوجد أو يحدث تحكمه في وجوده أو حدوثه شروط من العوامل السببية ضمن نظام واحد شامل لكل شيء بالطبيعة"[1]. ويعرّفه قاموس أكسفورد بأنه "فكرة أو اعتقاد يقول بأن القوانين الطبيعية والقوى الطبيعية التي تعمل داخل العالم هي فقط ما هو موجود"[2]. فلا شيء خارج الطبيعة كما هو واضح من التعريف. ويترتّب على المذهب الطبيعي التالي:

   - الإنسان نتاج للطبيعية بقوانينها العمياء.

   - الحياة لا معنى لها، فليس هناك قيم عليا تحكم حياة الإنسان.

   - الأخلاق ذاتية، أي أنها ترجع إلى آراء الفرد وميوله، وتتغيّر بالظروف الاجتماعية والأعراف، وليس لها حقيقة موضوعية.

   - المنطق والمعرفة نتاج لعمليات بيولوجية عصبية، أي أنها تعود إلى البنية الإنسانية ذات الخلفية التطورية.

   والصواب أن:

   - المذهب الطبيعي أو المادي ليس علمًا، أي ليس شيئًا يمكن اختباره تجريبيًا، وإنما هو "موقف فلسفي" أو "اعتقاد" كما تنصّ الموسوعات الفلسفية، وبالتالي فالمذهب الطبيعي شيء والعلم التجريبي شيء آخر. والنزاع حقًا يقع بين الدين والمذهب الطبيعي لا بين الدين والعلم. "ولا يحمل العلم ضمنه أي اندفاع لفرض المادية على الناس"[3].

   - الدين لا يعيق العلم، فلم يجد غاليلو ومثله نيوتن وكذلك معظم آباء العلم الأوائل العظام الذين ساهموا بالنهضة الكبيرة للعلم وقتئذٍ أن الإيمان بالله خالقًا للكون يعيق عملهم بأي درجة من الدرجات، بل إنهم رأوا الإيمان بالله محفزًا إيجابيًّا لعملهم العلمي، في الواقع اعتبر كثير منهم الإيمان بالله دافعه الرئيسي للمضي في البحث العلمي، فإن كانت هذه هي الحقيقة فما نشاهده من حماس إلحادي مفرط عند بعض الكتاب المعاصرين يدفعنا للتساؤل: لماذا يقتنعون بأن الإلحاد هو الموقف الفكري الصحيح؟[4]    

 

   المذهب الطبيعي يدحض نفسه:

   إذا اعتقد الإنسان بالمذهب الطبيعي أو المادة فسينظر لنفسه من منظور طبيعي، أي أنه مجرّد أشياء مادية بلا روح في جسده. وعلى ذلك يكون سلوك الإنسان نتاج الحهاز العصبي، وكذلك اعتقاداته؛ فإذا كانت الداروينية أو نظرية التطوّر صحيحة (وبالتالي الانتخاب الطبيعي هو المسؤول عن نشوء صفاتنا عبر طفرات وراثية عشوائية) فهذا يعني أن سلوكياتنا تكيّفية، أي تحسن ملائمتنا وتؤدّي للبقاء والتكاثر، ونفس الشيء يحدث للجهاز العصبي، فهو يتماشى ويتكيّف مع السلوكيات ليحفظ لنا البقاء والتكاثر، وهذا الجهاز العصبي الذي ينتج السلوكيات هو نفسه الذي ينتج الاعتقادات، والسؤال الآن: ما مدى مصداقية اعتقادات تلك الأجهزة التكيفية؟! لاحظ أن المهمّ في التطوّر هو التكيّف لا صحة الاعتقاد نفسه، ففي النهاية سيمرّر الانتخاب الطبيعي السلوك التكيّفي التطوّري، وليس الاعتقاد "الصحيح"[5].

   ومن وجه آخر كيف يعرف المؤمن بالمذهب الطبيعي أو المادية بأنه على حق؟ فإذا كان على حقّ فسيكون محكومًا كليًا بالأسباب المادية في تقديمه لهذا الإثبات تحديدًا، ولمبادلات الطاقة والآليات المتعدّدة التي تجري في دماغه والتي تجعله يعتقد أنَّ دليله مقنع. قد يكون محقًّا في الواقع، ولكنه بالطبع لا يستطيع أن يعرف ذلك.

   "الحقيقة" و"حالة الاقتناع" ليسا مقاييس للواقع؛ هي فقط حالاته العقلية الدقيقة التي تتحدد بقوانين الطبيعة. بالتالي يصبح الإثبات مستحيلاً لأنَّ كل إثبات بحد ذاته يعبر فقط عما قرر المثبت أن يصدقه بفعل كيمياء دماغه[6].

   ومن هنا فالجمع بين الداروينية والمذهب الطبيعي متناقض منطقيًا، أو مدمّر نفسه ذاتيًا، لأن الثقة في القدرات العقلية (التي تتطوًر بمرور الوقت وتبعًا لمنظور تكيّفي) تصبح غير ممكنة، وإذا صحّت عندك نظرية التطوّر فلن يكون لتصحيحك لها قيمة، لأنّ حكمك لم يعد مهمًا، بل أحكامك جميعًا غير مهمّة. وقد اعترف بهذه المأزق أحد أشهر زعماء الداروينية الجديدة وهو جون بوردون هالدن (J. B. S. Haldane) إذ قال: "إذا كانت المادية حقًّا فلن يمكننا فيما يبدو لي أن نعرف أنها حق، فإذا كانت آرائي نتاج عمليات كيميائية تجري في دماغي، ستكون محدَّدة بقوانين الكيمياء لا بقوانين المنطق"[7].

   إن التطوّر أصمّ أبكم أعمى، غير آبه بالقيمة المعنوية لأحكامنا، مما يلزم منه ألا مستمسك لأحد في ثقته بأحكامه العقلية، لأنها نتاج عقل متغيّر بتغيّر متطلبات بقاء النوع، لكننا نجد اعتداد الناس بثقتهم في ملاحظة قيمة "الحق" سلوكًا حاضرًا بقوة، بعبارة أخرى: يتملّك الناس - ملحدين ومؤمنين - شعور اضطراري بأنه يتوجّب عليهم أن يثقوا في قيمة أحكامهم، ولا يتأتّى لهم ذلك إلا بافتراض تميز موقعهم الإدراكي من أصله؛ قال سي أس لويس البروفسور في جامعة كامبردج -: لا يمكن لاقتناعنا بأن الطبيعية تعكس نظامًا أن يكون أهلًا لثقتنا إلا إذا اعتبرنا نوعًا خاصًا من الميتافيزيقا صحيحًا"[8]. إن أي بحث علمي بل أي معرفة لا يمكن أن تقوم إلا على التسليم بوجود إله عليم.

 



[1] The Metaphysics of Naturalism: 160

[2] Oxford Companion to Philosophy: 530

[3] God's Undertaker: 36

[4] المصدر السابق (11).

[5] هذه الحجة بحرفها قدمها ألفين بلانتنجا - الفيلسوف النصراني الشهير - في أكثر من كتاب له، وأسهل عرض لها في هذا المقطع:

https://www.youtube.com/watch?v=1M-a79W0ivc

[6] Answering the New Atheism: Dismantling Dawkins' Case Against God, p.69

   [7] النفس ودماغها، كارل بوبر، ترجمة عادل مصطفى ص128

[8] ثلاث رسائل في الإلحاد والعقل والإيمان، عبد الله الشهري، مركز براهين ص156