مشكلة الشرّ ووجود الله
بقلم رضا زيدان.
لا نبالغ إذا قلنا إن مشكلة وجود شرّ في العالم هي أهمّ مشكلة نفسية وفلسفية يطرحها الإلحاد قديمًا وحديثًا، وهي الأكثر حضورًا في المناظرات الشهيرة بين أنصار الإلحاد الحديث واللاهوتيين. وهناك تصريحات كثيرة جدًّا تدلّل على مركزية هذه المشكلة في الإلحاد؛ فعلى سبيل المثال يقول الفيلسوف الأمريكي مايكل تولي (Michael Tooley) في مناظرته لوليام لين كريغ (William Lane Craig) (2010) إن: ((الحجة المركزية للإلحاد الحديث هي حجة الشر))[1]. وقد وصفها الشاعر الألماني الملحد جورج بوخنز (Georg Büchner) بأنها ((صخرة الإلحاد))[2]. ويلخّص الفيلسوف الأمريكي رونالد ناش الحال (Ronald Nash) بقوله: ((الاعتراضات على الإيمان بالله تظهر وتختفي، لكن كلّ الفلاسفة الذين أعرفهم يؤمنون بأن أهمّ تحدٍّ جادٍّ للإيمان بالله كان في الماضي، وكائن في الحاضر، وسيبقى في المستقبل، هو مشكلة الشر))[3].
فما هي مشكلة الشر؟ أو معضلة أبيقور [نسبة لعرض الفيلسوف الإغريقي أبيقور]:
تصاغ المشكلة بصيغ مختلفة عادة، لكن أشهر الصيغ هي الصيغة التالية:
1- إذا كان يوجد إله كامل القدرة والخير والمعرفة بالعالم إذن لن يوجد الشرّ.
2- الشر موجود في العالم.
3- إذن، فإنه لا يوجد إله كامل القدرة والخير والمعرفة.
من الواضح أن المشكلة هنا ليست مشكلة تجريبية مطلقًا، أو كما يقول الفيلسوف الأسترالي ج. ل. موكي (J. L. Mockie): ((ليست مشكلة علمية يمكن حلّها بالمزيد من الملاحظة العلمية أو مشكلة عملية يمكن حلّها بقرار أو إجراء عملي))[4]؛ فهل هي مشكلة منطقية؟ وإذا كانت منطقية فهي مشكلة على من تحديدًا؟
اختلف الناس في التعامل مع هذه المشكلة – وسوف نسرد اختلافهم دون أسماء، لأنها لا تهم أصل البحث - فمنهم من أنكر وجود الشرّ أصلًا، ومنهم من أنكر وجود الله لوجود الشر، ومنهم من أثبت الخير والشرّ معا في إلهين مستقلين!، وغير ذلك. والإشكال الرئيس هنا أن مشكلة الشر تتعلّق بصفات الإله لا بوجوده؛ فالمشكل هنا هو التوفيق بين صفات الإله لا وجوده نفسه. الإنسان رقيق القلب بطبيعة الحال يصعب عليه تقبّل وجود الشرّ إجمالًا في هذا العال - سواء صرخة عجوز أو إيلام حيوان أو غير ذلك - مما يدفعه إلى وضع حاجز بينه وبين الإله، لكن ليس لإنكاره. وعادة ما يؤدّي هذا الإلحاد العملي إلى إلحاد فكري بطبيعة الحال، لكن الانتقال هنا ليس انتقالًا منطقيًا إنما هو انقالي نفسي. وهي النقطة المركزية في هذا الموضوع؛ فوجود الشرّ في العالم لا ينقل منطقيًا إلا إلى أن الإله ليس رحيمًا[5]، لا أن الإله ليس موجودًا. ومن الممكن عقلًا أن يوجد إله غير رحيم. وهذا الانتقال النفسي نابع من خلل في توفيق الإنسان بين صفات الله. ولذا سيكون نقدنا على محورين: محور معنى الشرّ نفسه، ومحور التوفيق بين صفات الله.
أ - معنى الشر:
نحن نسأل عن الحكمة من الشرّ لأننا نعتقد أن لحياة الإنسان قيمة، ولا يملك الملحد أن يفكّ نفسه عن إضفاء معنى الحياة حتى وهو يريد أن يعدمها بنفي الإله. ومن طرائف هذا الباب ما نشره الفيلسوف وليام كريغ في موقعه الإلكتروني، تحت عنوان: ((لقد دمّرت حياتي، بروفسور كريغ!)). وخلاصة القصة أن صاحب السؤال طالب فلسفة وقد أشرب قلبه الإلحاد حتى إن جل أبحاثه كانت عن الإلحاد ومعترضاته والرد عليها، وكان قرأ مقالًا لكريغ تحت عنوان ((عبثية الحياة من غير الله))، فاهتزّ له وجدانه ولم ينم يومين متتالين، وما أدركه هذا الطالب هو ما أدركته كبار العقول من قبله. يقول ديستوفسكي (Dostoyevsky) في العبارة الشهيرة على لسان إيفان كارامازوف (Ivan Karamazov): ((إذا لم يكن الله موجودًا فكل شيء مباحًا))[6]. لذا صرخ هذا الفتى عندما وضع رجله في عالم العدمية فقال: ((العدمية لا يمكن أن تعاش))، لقد أصيب بالتأزم النفسي، وانكفأ على نفسه في عزلة تامة، إذ أدرك أن الإيمان بالله هو الشيء الوحيد الذي بإمكانه أن يجعل للوجود معنى[7].
والسؤال البديهي هنا: إذا لم يكن الله موجودًا فمن أين أتى الملحد بمعيار الخير والشرّ؟ من أين أتى الملحد بالمعيار الأخلاقي؟ يقول وليام كريج: ((رغم أن المعاناة تشكّك على المستوى السطحي في وجود الله إلا أنها على مستوى أعمق تثبت وجود الله، إذ أنه في غياب الله لا تمثّل المعاناة شيئًا قبيحً؛ فإذا آمن الملحد بأن المعاناة شيء سيء أو بأنها أمر يجب ألا يكون، فهو بذلك يقدّم أحكامًا أخلاقية لا يمكن أن توجد إلا إذا وجد الله"[8]. ((بعبارة أوضح: لا يمكن للملحد أن يستدل بالشر الموجود في العالم لنفي وجود الله حتى يقر بوجود الخير والشر، ولا سبيل للإقرار بقيمتي الخير والشرّ حتى يقرّ الملحد بوجود المعيار الموضوعي، ووجود المعيار الموضوعي الأخلاقي غير ممكن دون وجود مشرع أخلاقي غير مادي، وهذا المشرّع هو الله الذي تسعى الحجة الأخلاقية المعتمدة على الشر لنفيه! وعلى هذا يكون لا سبيل لاعتماد حجة الشر لاثبات الإلحاد حتى يُنقض الإلحاد بإثبات وجود الله، فغاية الملحد ووسيلته لذلك تتنافيان (mutually exclusive)))[9].
فإذا فرغنا من ذلك فلعلّنا لاحظنا أن مشكلة الشرّ قد انقلبت على الملحد! وقد أحسن الفيلسوف دانيال هاورد-سنايدر (Daniel Howard - Snyder) إذ قال: ((إن مشكلة الشرّ هي مشكلة للملحد، أو لمن وجد مقدّمات المشكلة واستنتاجاتها مقنعة، وكانت أسباب قناعته بوجود الله هشة، أما إذا كان للمؤمن بالرب حجة صلبة فإن وجود الشر ليس مشكلة))[10]. وهو ما يؤكّد ما قلناه أن:
- مشكلة الشرّ مشكلة نفسية تتعلّق بإيمان الإنسان لا بالمنطق.
- مشكلة الشرّ لا يمكن أن تقوم إلا على أساس وجود الله ابتداء، الذي هو مصدر المعايير.
ب - التوفيق بين صفات الله.
- من المعلوم من الدين بالضرورة أن الله عدل لا يظلم الناس شيئًا، لكن الإشكال في مشكلة الشرّ أنه يعرّف العدل بصورة معينة، ولكن التعريف الصحيح للظلم هو ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية إذ قال: ((قال كثير من أهل السنة والحديث والنظار: بل الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه ومن ذلك أن يبخس المحسن شيئًا من حسناته أو يحمل عليه من سيئات غيره وهذا من الظلم الذي نزه الله نفسه عنه))[11].
إن هذا التصوّر نابع من تصوّر الإنسان للعدل البشري، ثم المماثلة التامة بين العدل الإلهي والعدل البشري. وذلك يماثل الذي يفهم من أن لله يد أن له يد بشرية، إلا أن صفات الله يوصف بها من غير تمثيل ولا تكييف كما عليه أهل السنة، فلا هم ينكرون الصفة أصلًا ولا يمثّلونها بصفات البشر؛ قال الإمام ابن القيم في كتابه الماتع شفاء العليل: ((فالشرّ في بعض مخلوقاته لا في خلقه وفعله، وخلقه وفعله وقضاؤه وقدره كل خير، ولذلك تنزّه عن الظلم الذي هو وضع الشيء في غير موضعه))[12]. فالله من صفاته الرحمة والعدل وغير ذلك من صفات الكمال، أما ما يضاد ذلك على ما يظهر في بعض الأفعال الدنيوية فهي "مشتبهات" نردها إلى صفاته "المحكمة". وهذه المشتبهات المتعلّقة بالشرور خصوصًا نسبية؛ قال الإمام ابن القيم: ((وإنما الشر نسبي إضافي وهو وضع هذا التأثير في غير موضعه والعدول به عن المحل المؤدّي إلى غيره. وهذا بالنسبة إلى الفاعل، وأما بالنسبة إلى المفعول فهو شرّ إضافي أيضًا، وهو ما حصل له من التألّم وفاته من الحياة. وقد يكون ذلك خيرًا له من جهة أخرى وخير لغيره. وكذلك الوطء فإن قوة الفاعل وقبول المحلّ كمال، ولكنّ الشرّ في العدول به عن المحلّ الذي يليق به إلى محلّ لا يحسن ولا يليق. وهكذا حركة اللسان وحركات الجوارح كلّها جارية على هذا المجرى؛ فظهر أن دخول الشرّ في الأمور الوجودية إنما هو بالنسبة والإضافة، لا أنها من حيث وجودها وذواتها شر)).[13]
- وهذا مع إقرارنا بوجود الشر الظاهر الآني أمام أعيننا[14] وأنه -كباقي المشتبهات - محلّ اختبار، ثم نقول إن كلّ أشكال الشرّ هي أشكال ابتلاء للإنسان، يبتلي الله بها عباده لحكمة ما. ومن المحسوس أيضًا أن لهذه الشرور غاية معينة؛ قال أي سي إيفين (A. C. Ewing) - أحد أساتذة الأخلاق في جامعة كامبردج -: ((إنها لحقيقة واقعة أن ثمة خيرات لا تأتي بغير محصول الشرّ، فكيف تتسنّى الفضيلة مثلًا بغير عوائق المغريات ومن ثم بغير الشرّ ولو في صورة الألم والعرقلة؟ وكيف توجد شجاعة بغير ألم أو مشقة أو خطر؟ وكيف يوجد الحبّ في أرفع حالاته التي نعرفها ما لم يكن هنالك داعية للعطف والإشفاق والتضحية، لا بدّ من شر نغلبه كي نحصل على فضيلة الغلبة عليه، وربما كان هناك أنواع أخرى من الحبّ والفضيلة كالتي نتخيّل أن الكائنات التي تعلو على طوق الإنسان متّصفة بها ولا تنطوي على شرّ من الشرور، ولكنها - إذا صح تخيلنا - نوع آخر غير حبّنا وفضيلنا، وكلما تعدّدت الفضائل كان ذلك أفضل وأجمل))[15]. بل يذهب الفيلسوف الشهير ألفن بلانتنجا إلى أنه حتى ولو لم يكن هناك غاية من وجود الشرّ إلا وجود الإرادة الحرة الإنسانية فالشر هنا ضريبة لازمة ومنطقية ومرضية لنعمة الارادة الحرة. وبذلك ينتقض الاعتراض على عدل الله أنه يسمح للشر بالوجود، إنه لا معنى عقلا وواقعا أن نتحدّث عن كائن حرّ يملك إرادة الاختيار ضمن الطبيعة البشرية المحضة ثم هو لا يفعل إلا الخير[16].
- ورغم أننا نقرّ بوجود الشرّ على النحو المذكور، وأنه من خلق الله وأن له حكمة في ذلك إلا أن الأدب النبوي يعلّمنا ألا ننسب لله أي شرّ، فقد جاء في صحيح مسلم: (..والخير كله في يديك، والشرّ ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك)[17]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((الكذب والظلم ونحو ذلك من القبائح يتّصف بها مَن كانت فعلًا له كما يفعلها العبد وتقوم به، ولا يتّصف بها من كانت مخلوقة له إذا كان قد جعلها صفة لغيره، كما أنه سبحانه لا يتّصف بما خلقه في غيره من الطعوم والألوان والروائح والأشكال والمقادير والحركات وغير ذلك؛ فإذا كان قد خلق لون الإنسان لم يكن هو المتلون به وإذا خلق رائحة منتنة أو طعما مرا أو صورة قبيحة ونحو ذلك مما هو مكروه مذموم مستقبح لم يكن هو متصفا بهذه المخلوقات القبيحة المذمومة المكروهة والأفعال القبيحة. ومعنى قبحها كونها ضارة لفاعلها وسببا لذمه وعقابه وجالبة لألمه وعذابه. وهذا أمر يعود على الفاعل الذي قامت به؛ لا على الخالق الذي خلقها فعلا لغيره))[18].
أما مشكلة الشرّ أو التصوّر الخاطئ للعدل قائمة على عدم إدراك ما سبق، لأنها تساوي بين التصوّر البشري القاصر للعدل أو الحكمة أو الخير الآني والتصوّر الإلهي الكامل الحكيم للحكمة والعدل. وكل هذا مع أن العقل السليم يقول بأن من الواجب أنه كما افترض أن الإله كلي الخير أن يفترض أنه كلي الحكمة، وبالتالي لا "يأنسِن" (Anthropomorphism) عدل الله أو حكمته بتصوّرات البشر الآنية؛ فالإنسان لا يريد إلا المتعة، ويقتضي تصوّره للعدل أن يخلقه الله على النحو الذي يريده هذا الإنسان، وأن يسأله الله في كل شيء قبل فعله! وهذا تصوّر مقلوب للألوهية والإنسانية كما هو ظاهر، لكن الله خلق الدنيا مليئة بالمكابدة، وعلى الإنسان أن يصبر على ما يلاقيه، قال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) [البلد 4]، وقال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) [البقرة 155].
ونختم بنقلين هامين لشيخ الإسلام وتلميذه:
قال شيخ الإسلام: ((فكل ما فعله [الله] علمنا أن له فيه حكمة؛ وهذا يكفينا من حيث الجملة وإن لم نعرف التفصيل، وعدم علمنا بتفصيل حكمته بمنزلة عدم علمنا بكيفية ذاته؛ وكما أن ثبوت صفات الكمال له معلوم لنا وأما كنه ذاته فغير معلومة لنا فلا نكذب بما علمناه ما لم نعلمه. وكذلك نحن نعلم أنه "حكيم" فيما يفعله ويأمر به، وعدم علمنا بالحكمة في بعض الجزئيات لا يقدح فيما علمناه من أصل حكمته؛ فلا نكذب بما علمناه من حكمته ما لم نعلمه من تفصيلها. ونحن نعلم أن من علم حذق أهل الحساب والطب والنحو ولم يكن متصفا بصفاتهم التي استحقوا بها أن يكونوا من أهل الحساب والطب والنحو لم يمكنه أن يقدح فيما قالوه؛ لعدم علمه بتوجيهه. والعباد أبعد عن معرفة الله وحكمته في خلقه من معرفة عوامهم بالحساب والطب والنحو، فاعتراضهم على حكمته أعظم جهلا وتكلفا للقول بلا علم من العامي المحض إذا قدح في الحساب والطب والنحو بغير علم بشيء من ذلك))[19].
وقال الإمام ابن القيم: ((قد استقرّت حكمته سبحانه أن السعادة والنعيم والراحة لا يوصل إليها إلا على جسر المشقة والتعب، ولا يدخل إليها إلا من باب المكاره والصبر وتحمل المشاق، ولذلك حفّت الجنة بالمكاره والنار بالشهوات. ولذلك أخرج صفيه آدم من الجنة وقد خلقها له واقتضت حكمته أن لا يدخلها دخول استقرار إلا بعد التعب والنصب؛ فما أخرجه منها إلا ليدخله إليها أتم دخول. فلله كم بين الدخول الأوّل والدخول الثاني من التفاوت. وكم بين دخول رسول الله r مكة في جوار المطعم بن عدي ودخوله إليها يوم الفتح. وكم بين راحة المؤمنين ولذتهم في الجنة بعد مقاساة ما قبلها وبين لذتهم لو خلقوا فيها. وكم بين فرحة من عافاه بعد ابتلائه وأغناه بعد فقره وهداه بعد ضلاله وجمع قلبه بعد شتاته وفرحة من لم يذق تلك المرارات. وقد سبقت الحكمة الإلهية أن المكاره أسباب اللذات والخيرات كما قال تعالى: (وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ) [البقرة: 216].
وربما كان مكروه النفوس إلى ... محبوبها سببًا ما مثله سبب))[20].