title3

 banner3333

 

الجانب الإيماني للعلم

الجانب الإيماني للعلم

بقلم رضا زيدان. 

  يشيع في الغرب بعد تغيّرات تاريخية كبرى أن هناك معارضة بين الإيمان والعلم؛ فالعلم يقوم على الدليل الموضوعي، أما الإيمان فيقوم على الوجدان والذاتية، ومن ثمّ يجب إهمال الدين بالنظر إلى موضوعية العلم الطبيعي والبحث التجريبي. واستغل الملاحدة الجدد هذه النظرة، فترى دوكينز يؤكّد على أن الإيمان أعمى، بينما العلم هو الوسيلة الوحيدة للمعرفة. وهذه المقابلة تقوم على خطأ مزدوج، فمن ناحية الإيمان ليس ذاتيًا محضًا، بل هناك أدلة عقلية واضحة تدلّل على المقاصد الإيمانية، بدايةً من الحقيقة الكبرى وهي وجود الله وانتهاءً بموافقة التفاصيل الفقهية -كتحريم الاختلاط - الدراسات العلمية الحديثة، التي تدعم المطلب الفقهي. ومن ناحية أخرى - وهو شغل هذا المقال - العلم ليس موضوعيًا خالصًا، أي أن العلم ليس خاليًا من الإيمان.

  يفترض العلم الطبيعي مفهوم "قابلية الكون للإدراك" سلفًا، لأنه لولا هذه القابلية وهذا الاطّراد والانتظام لما كان هناك علم ولا كان هناك قوانين؛ قال جون لينوكس – بروفسور الرياضيات في جامعة أكسفورد - "الثقة بأن العمليات العقلية البشرية تملك درجة ما من الموثوقية والقدرة على منحنا بعض المعلومات الخاصة بالعالم أمر أساسي لأي نوع من الدراسة، وليس للدراسة العلمية فقط؛ فهذا الإيمان محوري لكل عمليات التفكير لدرجة أنه لا يمكننا حتى الشكّ بصلاحيته دون أن نفترض وجوده سلفًا؛ لأننا مضطرون للاعتماد على عقولنا من أجل القيام بفعل الشكّ، إنه الإيمان الأساسي الذي تُبنى عليه كل أبحاثنا الفكرية"[1]. ويهمنا هنا الآتي:

  1- هذا التوافق بين أحكامنا السابقة للتجربة لا يمكن تفسيره إلا من خلال تصميم حكيم، فـإدراك الكون بالعقل هو أحد الاعتبارات الأساسية التي قادت المفكّرين على مرّ الأجيال لاستنباط أن الكون يجب أن يكون ثمرة تصميم حكيم. ويلخص كيث وارْد – البروفسور في جامعة أكسفورد - الفكرة بقوله: "معظم من تفكّر بعمق وكتب عن أصل الكون وطبيعته بدا لهم أنه يشير إلى خارجه إلى مصدر لوجوده غير مادي ويملك الحكمة العظيمة والقدرة غير المحدودة. كل الفلاسفة الكبار تقريبًا - ومنهم بالتأكيد أفلاطون وأرسطو وديكارت وليبنز وسبينوزا وكانط وهيغل ولوك وبيركلي- رأوا أن أصل الكون يكمّن في حقيقة فوق المادة، ويتباين هؤلاء الفلاسفة بأفكارهم الخاصة بخصوص هذه الحقيقة واتخذوا طرقًا مختلفة لمقاربتها، لكنهم اتفقوا على أمر ظاهر نسبيًّا بأن الكون غير مفسر ذاتيًّا، وأنه يحتاج إلى تفسير ما من خارجه"[2].   

  2 - لا يمكن للعلم تفسير هذا التوافق بين العقل والتجربة، وكان ألبرت أينشتاين يرى قابلية الكون للإدراك شيئًا يدعو للعجب؛ فكتب: "قد تجد من الغريب أني أعتبر قابلية العالم للفهم كمعجزة أو كلغز خالد. من البديهي أن نتوقّع كونًا فوضويًّا لا يمكن فهمه بالعقل بأي حال ... لكن النظام الذي أوجدته نظرية نيوتن في الجاذبية - على سبيل المثال - مختلف كليًّا؛ فإن وضع أحدهم مسلّمات النظرية سيعتمد نجاح هذا المشروع على الافتراض المبدئي لوجود درجة عالية من النظام في العالم الموضوعي، وهذا لا يتوقّع كأمر بديهي، إن هذه هي المعجزة التي تتأكّد باستمرار مع توسع معارفنا"[3].

  وسننظر للتمثيل على ذلك في صفة شديدة الأهمية من صفات العقل وهي استعمال الرياضيات لوصف العالم؛ فمن المفاجئ أن نجد أن معظم المفاهيم الرياضية المجرّدة التي بدت اختراعات بحتة مصدرها العقل البشري تصبح ذات أهمية حيوية لفروع من العلم مع مجال واسع من التطبيقات العملية. ولا يثبت مثال نظرية نيوتن أن الكون قابل للإدراك فحسب (وهذا بحدّ ذاته أمر مذهل)، وإنما يثبت أن قابلية الإدراك هذه ذات طبيعة رياضية رائعة، نميل لاعتبار فائدة استعمال الرياضيات كأمر واضح لأننا متعودون جدًّا على التعامل معها، ولكن لماذا؟

  يعتبَر بول دافيس – البروفسور البريطاني في الفيزياء - أحد العلماء غير المقتنعين بالاستجابة العفوية عند الذين يقولون إن القوانين الأساسية للطبيعة هي الرياضيات ببساطة؛ لأننا نصف القوانين بالأساسية عندما تكون القوانين رياضية، وأحد الأسباب الرئيسية التي تجعل منه غير راض فيقول "الكثير من الرياضيات التي وجدنا أنها قابلة للتطبيق بنجاح استنبطها علماء الرياضيات كتمارين نظرية مجرّدة قبل تطبيقها على العالم الحقيقي بفترة طويلة، لم تكن الاكتشافات الرياضية الأصلية مرتبطة مطلقًا مع تطبيقاتها النهائية"[4]؛ فالعقل متعالي على التجربة، فكيف يمكن تفسير هذا التعالي؟! هناك تفسيران لا ثالث لهما:

  1- التفسير التطوري: وهو أن الانتخاب الطبيعي جعل العقل هكذا فحسب!، وهو أمر غير منطقي مطلقًا؛ فالعقل قادر على خلق نظريات كثيرة جدًّا لا أصل لها في الطبيعية لتفسير أمر ما، ويقدّم معادلات مجرّدة لا يمكن تحققها واقعيًا، فما الذي حرّك الانتخاب الطبيعي نحو هذا التجريد أصلًا، وهو لا يحقق منفعة عاجلة؟ قال روجر بنروز - بروفيسور الرياضيات في جامعة أكسفورد -: "من الصعب علي أن أصدّق ... بأن هذه النظريات الرائعة يمكن أن تظهر بكل بساطة بانتخاب طبيعي ما للأفكار فيترك فقط الأفكار الجيّدة لتبقى. إن الأفكار الجيدة هي ببساطة أكثر جودة من أن تكون بقية من مجموعة أفكار ظهرت عشوائيًّا، لابدّ من طرح بديل وهو وجود سبب ضمني أعمق يوافق بين الفيزياء والرياضيات غير الانتخاب الطبيعي"[5].

  2- التفسير الإيماني: وهو أن الله خلق الإنسان بعقل مناسب للطبيعة، وجعل هذا العقل أوسع من التجربة؛ قال إيوجين فيغنز - الحائز على نوبل في الفيزياء-: "الاستفادة العظيمة من الرياضيات في العلوم الطبيعية أمر يصل إلى حدود الأحجيات، ولا يوجد أي تفسير عقلاني له... إنها مفردة من الإيمان"[6]. وقال جون بولكينغهورن – بروفسور الفيزياء الرياضية في جامعة كامبردج -: "لا يفسّر لنا العلم قابلية العالم الفيزيائي للإدراك رياضيًّا؛ لأن قابلية إدراك الكون رياضيًّا تشكّل جزءًا من الإيمان الأساسي الذي بُني عليه العلم"[7]. ولا ريب أننا لاحظنا وجود عالمين بارزين هنا - فيغنر وبولكينغهورن - يلفتان النظر صراحةً إلى الدور التأسيسي الذي يلعبه الإيمان في العلم، نعم إنه الإيمان.

  وقال جون هوت – البروفسور الأمريكي المشهور -: "في مرحلة ما خلال محاولة تقييم كل ادّعاء حقيقي أو فرضي لابدّ من قفزة إيمانية لهذا التقييم عند بداية كل بحث بشري عن الفهم، وعن الحقيقة بما في ذلك البحث العلمي فإن عنصرًا لا يمكن الاستغناء عنه من الإيمان يبقى موجودًا. إن وجدت نفسك تشكّك في ما قلته للتوّ فهذا يرجع فقط لكونك - في هذه اللحظة - تثق بعقلك لدرجة أنّك تبدي القلق تجاه ما أقطع به، فلا يمكنك ترك الثقة بقدرتك العقلية حتى إن كنت في حالة شكّ، كما أنّك تقدّم أسئلتك النقدية أيضًا فقط لأنك تؤمن بأن الحقيقة تستحق البحث عنها. إن الإيمان بهذا يأخذ مكانه في جذر كل الأديان الحقة وكل العلوم"، ويستنتج هوت استنتاجا محقًّا وهو أن هذا "يُثبت بجلاء أن المحاولات الإلحادية الجديدة لإلغاء وجود الإيمان من الوعي البشري هي محاولات سخيفة وعقيمة"[8].

  ويؤيد كيث وارد بقوة هذه الرؤية قائلًا: "إن الانسجام المتصل بين الجسيمات الفيزيائية والعلاقات الرياضية الدقيقة أكثر احتمالًا للوجود إن قام خبير كوني في الرياضيات بنظم العلاقات بالشكل المطلوب، فوجود قوانين الفيزياء ... يوحي تمامًا بوجود الله الذي صاغ هذه القوانين وضمن اتساق الواقع الفيزيائي معها"[9].

  ويرمي جون هالدين – البروفسور البريطاني - بفكرة المقابلة بين العلم والدين فيقول بأن المقاربات العلمية والدينية متشابهة "لذلك العلم يشبه الإيمان من حيث الاعتماد على افتراضات عقائدية مسبقة، وبالأخص في مسألة الافتراضات المسبقة المتعلّقة بنظام الكون، وقابلية الكون للإدراك، بالإضافة إلى تشابه الاعتقاد العلمي المسبق مع مضمون المفهوم الديني بأن الكون مخلوق وفق نظام. ويبدو أيضًا أن متّبعي المذهب الديني يحملون الحماس العلمي بإصرار على البحث عن كيفية إمكان وجود النظام المدرَك للوصول إلى العلاقة الأكثر جوهرية بين الأوصاف والتفسيرات المتعلّقة بوجود وطبيعة الكون"[10].

  الخلاصة: إن التفسير الإيماني يؤيّد قابلية الإدراك العقلي للكون ويعطيها معنى، وبالمقابل يقوّض التفسير التطوّري هذه القابلية للإدراك ويحلّلها إلى أشياء لا معنى لها، فضًلا عن أن يقدّم الظروف التطوّرية التي شجّعت على توليد هذه الصفة التجريدية للعقل. إن العلم لا يمكن أن يقوم إلا أساس التفسير الديني.


[1]John Lennox, God's Undertaker: Has Science Buried God?, Oxford: Lion 2009, p.59 - 60

[2] God, Chance and Necessity: 1

[3] Letters to Solovine: 131

[4] The Mind of God: 150

[5] The Emperors New Mind (430)

[6] The Unreasonable effectiveness of Mathematics, Communication in Pure and Applied Mathematics, 13, pp. 1 - 14

[7] Reason and Reality: 76

[8] God and the New Atheism (47 – 48)

[9] God, Chance and Necessity: (55 – 56)

[10] Theism and Atheism: 92