بسم الله الرحمن الرحيم
[من الأدلة على وحدانية الله: النظر في أحوال المضطرين]
انظر أحوال المضطرين الواقعين في المهالك، والمشرفين على الأخطار، والبائسين من فقرهـم المدقـع، أو مرضِهم الموجع؛ وكيف تضطرهم الضروراتُ وتلجئهم الحاجاتُ إلى ربهم وإلـههم؛ داعين مفتقرين وسائلين له مستعطين، فيجيب دعواتِهم ويكشف كرباتِهم، ويرفع ضروراتِهم.
أليس في هذا أكبرُ برهانٍ على وحدانيته، وسعة علمه ورحمته، ودقيق لطفه، وأنه ملجأ الخليقة كلها؟، وقد نبّه الله على هذا البرهان العقلي بقوله: {{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ}}، {{تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}} ([1])، {{لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}{فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} ...} الآية ([2]).
وهذا النوع ـ وهو تخليص المضطرين ـ قد شاهدته الخليقةُ بأعينهم؛ ورأوا من الوقائع ما لا يعد ولا يحصى، وهذا يضطرهم إلى الاعترافِ بالله وبوحدانيته.
فانظر إلى حالة المضطرين إذا كَرَبَتهم الشدائد وأزعجتهم النوائبُ، كيف تجد قلوبَهم متعلقةً بالله، وألسنتَهم ملحةً في سؤاله، وأفئدتَهم متشرفةً لنواله؟؛ لا تلتفت عن الله يَمنةً ولا يَسرةً؛ لعلمها الضروريِّ أنه وحده كاشفُ الشدائد، فارج الكروب؛ لا ملجأَ للخليقة إلا إليه؛ ولا معوَّل لهم إلا عليه؟
فهل هذه الأمور إلا لأن الخليقةَ مفطورةٌ على الاعترافِ بوحدانية ربها، وأنه النافع الضارُّ، وأن ملكوتَ كلِّ شيء بيديه؟، وهل ينكرُ ذلك إلا من فَسَدت فطرتُه بالعقائدِ الفاسدة والإراداتِ السيئة؟
وانظر إلى فقرِ الخلائق إلى ربهم في كل شيء؛ فهم فقراءُ إليه في الخلق والإيجاد، وفقراءُ إليه في البقاء والرزق والإمداد، وفقراءُ إليه في جَلْب جميع المنافع، وفقراءُ إليه في دفع المضار.
فهم يسألونه بلسانِ المقال ولسانِ الحال، فيعطيهم مطالبَهم، ويسعفُهم في كلِّ مآربهم؛ إن رغبوا لم يرغبوا إلا إليه، وإن مستهم الضراءُ لم يلجأوا إلا إليه.
فكم كشف الضرَّ والكروب، وكم جبر الكسيرَ ويسَّرَ المطلوب، وكم أغاث ملهوفاً، وكم أنقذ هالكاً، ففقرهم إليه في جميع الأحوال ظاهر مشاهد، وغناه عنهم لا ينكره إلا كلُّ مكابِر وجاحد.
(البراهين العقلية على وحدانية الرب ووجوه كماله 22 - 25، للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي).
[1] - هاتان الآيتان كتبت في الأصل على سياق واحد؛ وتمام الآيتين هو: {{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}} [النمل: 62، 63].
[2] - هذه الآيات كتبت في الأصل على سياق واحد؛ وهي كذلك في سورتين مختلفتين، وتمام الآيات للمقطع الأول: {{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}} [العنكبوت: 65]، وللمقطع الثاني: {{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَفَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}} [يونس: 22، 23].