بضعة أسباب تثبت استحالة أصل تطوّري للحياة
لم يشهد البشر أصل الحياة، ولا وجود لدليل فيزيائي جيولوجي على أصلها. وفي معرض حديثه عن أصل جزيئة افتراضية مضاعفة ذاتيًا وعن بنية تلك للجزيئة، قال آدي بروس (Addy Pross) – بروفسور الكيمياء – أخيرّا: "إن الجواب البسيط هو أننا لا نعلم، وربما لن نعلم أبدًّا"(1). وفيما بعد، فيما يتعلّق بالسؤال عن أصل جزيئة كهذه يقول بروس: "... يمكننا إعادة صياغة السؤال بشكل طريف على هذا النحو: باعتبارنا خليطًا تفاعلها مجهولًا فعليًا، في ظروف تفاعل مجهولة فعليًا، تتفاعل لتعطي نواتج مجهولة بواسطة آليات مجهولة، هل يمكن لناتج خاص ذي ميزة معيّنة ... أن يتمّ إدراجه ضمن نواتج التفاعل؟"(2).
تلخّص تلك الهوة الجميلة مدى التقدّم الذي حقّقه العلماء التطوّريون تجاه إثبات سيناريو ميكانيكي إلحادي لأصل الحياة بعد أزيد من نصف قرن من البحث الفيزيائي والكيميائي والجيولوجي. ورغم ذلك فمن الممكن اشتقاق عوامل تثبت بشكل قطعي استحالة أصل تطوّري للحياة على هذا الكوكب. لا يمكن لأصل الحياة إلا أن ينشأ نتيجة لعامل ذكّي خارج عن الكون الطبيعي ومستقلّ عنه. هناك ما يكفي من الفضاء فقط لوصف قليل من الحواجز عصية التجاوز لأصل حياة تطوّري:
يتشكّل غلافنا الجوي الحالي من 78% من النيتروجين و21% أكسجين جزيئي والباقي غازات أخرى كثنائي أوكسيد الكربون والأرغون وبخار الماء. يمكن لغلاف جوي يحتوي على أكسجين حرّ أن يكون مميتًا لجميع أنماط أصل الحياة. وفي حين أن الأكسجين ضروري للحياة، فإن الأكسجين الحر يمكن أن يتأكّسد مسببًا دمار جميع الجزيئات العضوية اللازمة لأصل الحياة. لذا، فرغم الدليل الذي مفاده أن الأرض طالما احتوت على كمّيات هامة من الأكسجين الحر في الغلاف الجوي(3)، يصرّ التطوّريون على نفي وجود الأكسجين في الغلاف الجوي الأولي للأرض. وعلى أيّ حال، فهذا الأمر يعدّ أيضًا مميتًا لأصل الحياة. فغياب الأكسجين يعني غياب طبقة من الأوزون واقية تحيط بالأرض. وعلى ذكر الأوزون، فإنه يتمّ إنتاجه بفعل الإشعاع الشمسي المنعكس على أكسجين الغلاف الجوي، محوّلًا الأكسجين ثنائي الذرة الذي نستنشقه إلى آخر ثلاثي (3 ذرات أكسجين)، وهو الأوزون. إذن فغياب الأكسجين يعني غياب الأوزون. يمكن للأشعة فوق البنفسجية المدمّرة بشكل مميت القادمة من الشمس أن تنصبّ دون عوائق على سطح الأرض، مدمّرة هذه الجزيئات العضوية اللازمة للحياة، مختزلة إياها في غازات بسبطة كالنتروجين وثنائي أكسيد الكربون والماء. لذلك يواجه هؤلاء التطوّريون معضلة لا حل لها: فمع وجود الأكسجين، لا يمكن أن تتطور الحياة ومع عدمه لا وجود إذن للأوزون، وبالتالي لن تتطور أو حتى أن توجد الحياة على الأرض.
تتكون على نحو أولي الطاقة المتاحة على أرض بدائية افتراضية من الإشعاع القادم من الشمس، مع طاقة من تفريغ الشحنات الكهربائية (الإضاءة)، إضافة إلى مصادر ثانوية صادرة عن التناقص الإشعاعي والحرارة. يتمثّل الإشكال بالنسبة لنظرية التطوّر في أن معدّلات تدمير الجزيئات الحيوية بواسطة جميع مصادر الطاقة الخام يتجاوز بكثير معدلات تكوينها من قبل نفس المصادر. وفي تجربة ستانلي ميلر (Stanley Miller) فقد كان السبب الوحيد وراء نجاحه في الحصول على قدر صغير من النواتج استعماله فخًّا لعزل النواتج عن مصدر الطاقة(4). وهنا يقف التطوّريون أمام مشكلتين:
الأولى: عدم إمكان وجود فخّ مماثل على الأرض البدائية.
والثاني: أن الفخّ نفسه قد يكون قاتلًا لأي سيناريو تطوّري. وبمجرّد ما يتمّ عزل النواتج في الفخّ، فلا مجال لحدوث أيّ تقدّم تطوّري، نظرًا لعدم وجود أي طاقة متاحة. يقول دي. إي. هول (D.E. Hull) معلّقًا على تجربة ميلر: "إن هذه الحيوات القصيرة من الانحلال في الجوّ أو المحيط تمنع بوضوح مراكمة تركيزات مفيدة للمركبات العضوية وذلك لردح من الزمن ... لا يستطيع عالم الفيزياء والكيمياء الذي تقوده مبادئ الترموديناميكا الكيميائية والحركية المبرهن عليها أن يقدّم أيّ تشجيع لعالم الكيمياء الحيوية الذي يحتاج إلى محيط مليء من المركبات العضوية لكي تكون ولو قوصرات (كواسرفايت) عديمة الحياة"(5.(
لنفترض - حسب ما يقترحه التطوّريون - أن كان هناك سبيلًا ما كي تتكوّن جزيئات عضوية هامة بيولوجيا بكمّية كبيرة على الأرض البدائية. لو كان الأمر كذلك لكانت النتيجة فوضى لا توصف. فبالإضافة إلى العشرين حمضًا أمينيًا الموجودة في البروتينات اليوم، فقد كان ممكنًا إنتاج المئات من أنواع أخرى من الأحماض الأمينية إلى جانب الديوكسريبوز والريبوز والسكريات خماسية الكربون الموجودة اليوم في الحمض النووي والآر إن إي (RNA). كما كان ممكنًا إنتاج تشكيلة من سكريات أخرى خماسية ورباعية وسداسية وسباعية الكربون، ونفس الشيء يتعلّق بالبيورينات والبريميدينات الموجودة في الحمض النووي والآر إن إي حاليًا. أضف إلى ذلك، أنه من ناحية الأهمية الحياتية أنك لا تجد الأحماض الأمينية في البروتينات إلا يسارية، في حين أنه على الأرض البدائية كان ممكنًا أن يكون 50% منها أحماضًا يمينبة و50% يسارية. أما السكريات في الحمض النووي والآر إن إي اليوم فكلها يمينية، ولو كانت موجودة على الأرض البدائية لكان نصفها يساريًا ونصفها يمينيًا. ولو وجد حمض أميني واحد فقط في بروتين، أو سكر واحد فقط في الحمض النووي أو الآر إن إي لكان جميع النشاط البيولوجي مدمّرًا. وما كان هناك مجال لأن تكون هناك آلية سانحة لاختيار الشكل الصحيح (الحمض الأميني) على الأرض البدائية. وهذا العامل لوحده كفيل بإبطال نظرية التطوّر، ولم يزل التطوّريون في صراع مع هذه المعضلة منذ أوّل ما تم التطرق إليها، ولا يلوح لها حل في الأفق. إن كل هذه التشكيلات يمكن أن تنافس تشكيلة أخرى، كما أن تشكيلة كبيرة من جزيئات عضوية أخرى بما فيها الألدهيدات، والسيتونات، والأحماض، والدهنيات، والأمينات والكربوهيدرات وغيرها كانت لتوجد. لو طالب التطوّريون حقًا بمحاكاة ظروف معقولة للأرض البدائية، فإذن لم لا يضعون متفاعلاتهم في فوضى كبيرة كهذه، ويسلّطون عليها أشعة فوق بنفسجية، أو يصدموها بشحنات كهربائية، أو يقومون بتسخينها وينظروا بعدها إلى النتائج؟ إنهم لا يفعلون ذلك لعلمهم بأنه لن تتحقّق لهم أدنى إمكانية لحصول ما يثبت سيناريو التطوّر. وعوض ذلك فهم ينتقون بعناية فقط المواد البدائية التي يريدون من ورائها إنتاج الأحماض الأمينية أو السكريات أو البورينات أو غيرها، وبعدها يستخدمون ظروفًا تجريبية غير معقولة لا يمكن أن تكون قد تحقّقت على الأرض البدائية. ثم يدّعون حينئذ في كتبهم ومقالاتهم العلمية أن النوع الفلاني من الجزيئات الحيوية كان قابلا للظهور بكميات وفيرة في تلك الأرض.
يقولون إن الحمض النووي هو سرّ الحياة، وما هو بذاك. بل الحياة هي سر الحمض النووي. يصرّ التطوّريون على ادّعاء أن المرحلة الأولى من أصل الحياة كانت أصل جزيئة حمض نووي أو جزيئة آر إن إي ذاتية المضاعفة. ولا وجود لهذه الجزيئة ولا يمكن أن توجد أبدًا. يتطلّب تكوين جزيئة إدخال نوع مختار بعناية من الطاقة بالإضافة إلى حواجز لبناء الجزيئة. هذه الحواجز عبارة عن أحماض أمينية إن تعلق الأمر بالبروتين، ونكليوتيدات بالنسبة للحمض النووي أو الآر إن إي، والتي تتكوّن من بورينات وبيرميدينات وسكريات والحمض الفوسفوري. ولو أذيبت الأحماض الأمينية في الماء فإنها لن تلتصق ببعضها البعض لتكون البروتين. بل العملية تتطلب تزويدها بالطاقة. ولو أذيبت البروتينات في الماء فإن الروابط الكيميائية التي بين الأحماض الأمينية تنكسر منفصلة عن بعضها البعض مرسلة الطاقة (وهذا ما يسمى بالبروتين المميه). والأمر ذاته يقال للحمض النووي والآر إن إي. ولتكوين بروتين في المختبر، يضيف الكيميائي بعد إذابة الأحماض الأمينية في مذيب عنصرًا كيميائيًا ذا روابط ذات طاقة عالية (كعامل بيبتيدي)، تحول طاقة هذا العنصر الكيميائي لصالح الأحماض الأمينية. توفّر هذه العملية الطاقة الضرورية لتشكيل الروابط الكيميائية بين الأحماض الأمينية وترسل الهيدروجين وأكسيد الهيدروجين لتكوين الماء. لا يحدث هذا الأمر إلا في مختبر كيمياء أو في خلايا الكائنات الحية، ولا مجال أبدًا لحصول مثل هذا التفاعل في أي مكان على الأرض البدائية. من أو ما الذي سيكون هناك ليوفّر إمداد ثابتا للطاقة المناسبة لذلك؟ أما الطاقة التدميرية الخام فلن تعمل. ومن أو ما الذي سيكون هناك ليوفر إمدادا ثابتا لحواجز البناء المناسبة سوى الخردة! إن التطوريون في حديثهم عن جزيئة حمض نووي ذاتية التضعيف كالباحث عن عنقاء مغرب!
إن الحمض النووي، تمامًا كالآر إن إي الرسول، والآر إن إي الناقل والآر إن إي الريبوزومي، فإنه يتعرّض للتدمير بواسطة عدة عوامل. بما فيها الأشعة فوق البنفسجية، وأنواع الأكسجين التفاعلية، والعوامل الألكيلية، والماء. وقد ذكر تقرير أخبر أنه يوجد 130 مورثة تصليح للحمض النووي البشري معروفة وهناك ما هو أكثر في طريق الاكتشاف. وقال كاتبو المقال إن "عدم استقرار جينوم [الحمض النووي] الذي تسببه التشكيلة الواسعة من عوامل تخريب هذا الحمض قد يكون مشكلًا بالغًا بالنسبة للخلايا والكائنات لو لم يتوفّر الحمض النووي على منجم للتصليح"(6). تذكّر أن الماء بدوره واحد من عوامل تخريب الحمض النووي! ولو نشأ على الأرض لأمكن إذابته في الماء. لذا، فإن الماء وعددًا من العناصر الكيميائية المذابة فيه، إلى جانب الأشعة فوق البنفسجية قادرة على تدمير الحمض النووي أسرع بكثير مما يمكن لأقصى عملية يمكن تخيّلها أن تنتجه. وينصّ المقال على أنه لو افتقر الحمض النووي إلى مورثات تصليح فلا يمكنه البقاء حتى في الوسط الوقائي داخل للخلية! فكيف يستطيع إذن الصمود في وجه الهجوم العنيف من طرف جميع العوامل التي تسبب دماره والتي يدعي التطوريون وجودها على الأرض البدائية؟
ما هي العوامل الخلوية الضرورية لإصلاح الحمض النووي ولبقائه؟ إنها مورثات الحمض النووي، لذا فالحمض النووي ضروري لبقاء الحمض النووي! لكن كان مستحيلًا أن تنشأ مورثات الإصلاح قبل نشوء الحمض النووي ومستحيلًا أن ينشأ الحمض النووي قلل نشوء مورثات الإصلاح. وهنا نرى عقبة أخرى أمام القول بالتطوّر. وعلاوة على ذلك، من السخيف أن نتخيّل أن مورثات إصلاح الحمض النووي تطوّرت ولو كانت هناك خلية موجودة. تقوم هذه المورثات بتشفير سلاسل من مئات الأحماض الأمينية التي تكون البروتينات التي تعدّ العوامل الفعلية المشاركة في إصلاح الحمض النووي. تترجم شيفرة الحمض النووي إلى آر إن إي رسول، هذا الأخير يجب عليه الانتقال إلى ريبوزوم والاتحاد معه (الذي يتمّ تكوينه انطلاقًا من 3 جزيئات آر إن إي ريبوزومية مختلفة و55 جزيئة بروتين مختلفة). وعلى كل حمض أميني أن ينضمّ إلى آر إن إي ناقل خاص به، وهذا التزاوج يحتاج بدوره إلى بروتين خاص بذلك الزوج. وتكون الأحماض الأمينية المناسبة الملتصقة بالآر إن إي الناقلة - المستجيبة للشيفرة على الآر إن إي الرسول ومستعملة الشيفرات التي على الآر إن إي الناقلة - ملتصقة بسلسلة البروتين المتنامية حسب الترتيب الموصوف من قبل شيفرة الآر إن إي الرسول. تتطلّب هذه العمليات العديد من الأنزيمات إلى جانب الطاقة المناسبة لها. إن كل ما ذكر ما هو إلا مقدمة مختصرة لتعقيد الحياة الذي لا يصدق الموجود ولو داخل بكتيريا مجهرية.
بقلم د. ديان غيش (عالم أمريكي، يحمل شهادة الدكتوراه في الأحياء الكيميائية، وعمل باحثًا في كلية الطب ويل كورنيل في جامعة كورنيل خلال 18 سنة. وكان نائب رئيس معهد الأبحاث المختصة بالخلق).
المصادر:
1-Pross, Addy. 2004. Causation and the origin of life. Metabolism or replication first? Origins of Life aution of the Biospheres 34:308.
2-Ibid., 316.
3-Davidson, C. F. 1965. Geochemical aspects of atomospheric evolution. Proc. Nat. Acad. Sci. 53:1194; Brinkman, R. T., 1969. Dissociation of water vapor and evolution of oxygen in the terrestrial atmosphere. J. Geophys. Res., 74:5355; Clemmey, H., and N. Badham. 1982. Oxygen in the Precambrian atmosphere; an evaluation of the geological evidence. Geology 10:141; Dimroth, E., and M. M. Kimberley. 1976. Precambrian atmospheric oxygen: evidence in the sedimentary distributions of carbon, sulfur, uranium, and iron. Can. J. Earth Sci., 13:1161.
4-Miller, Stanley. 1953. A production of amino acids under possible primitive earth conditions. Science 117:528.
5-Hull, D. E. 1960. Thermodynamics and kinetics of spontaneous generation. Nature 186:693.
6-Wood, R. D., et al. 2001. Human DNA repair genes. Science 291:1284.