سلسلة التطور ...الفصل الخامس – سقوط مفهوم الانتخاب الطبيعي كآلية للتطور
من المعلوم أن الطبيعة كمفهوم – فهي ليس لها عقل ولا وعي ولا حرية تصرف أو اختيار، لأنها شيء مادي صرف يخضع لقوانين محددة وضعها الله تعالى في هذا الكون وهذا العالم لتحكمه، وعندما يتحدّث العلماء – حتى من قبل داروين – عن الانتخاب الطبيعي أو الانتقاء الطبيعي، فهم يتحدثون عنه كآلية طبيعية تحافظ على ثبات الأنواع دون فسادها، آلية تعمل على إبقاء أفضل الأفراد من النوع الواحد في وسط التغييرات التي يمكن أن تحدث في بيئته، يعني مثلًا لو افترضنا أن بعض الظروف الطبيعية القاسية قد حلت بمجموعة من الكائنات، مثل الجدب أو القحط أو شدة المناخ مثلًا، فهذا كله سيعمل على موت الأفراد الأضعف على المقاومة لهذه الظروف الطبيعية القاسية، في مقابل بقاء أقوى الأفراد على التحمل والتكيف معها ... أو يعمل على إعادة توزيع الأفراد حسب تكيّفها مع الظروف المحيطة بها (مثلا السود والزنوج في المناطق الحارة لقلة إصابتهم بأمراض الشمس، وتوجه غيرهم من البيض إلى المناطق الأخرى المعتدلة أو الباردة) .. أو أن يقوم البشر بتلوين سيقان بعض الأشجار بلون أبيض مثلًا فتصبح النملات السوداء أكثر عرضة للافتراس من الطيور عن النملات الفاتحة اللون وهكذا .. فكل هذا هو المعنى الوحيد المقبول والمتفق عليه عند كل العلماء المختصين بالكائنات الحية ودراستها، ولم يقل أحدهم أن مثل هذه التأثيرات الطبيعية يمكن أن تنتج لنا يوما ما عضوًا جديدًا في جسد الكائن الحي فضلًا عن ظهور كائن حي جديد بأكمله! وهو ما يقوم التطوريون بخلع صفات العقل والإرادة والتطوير على هذا الانتخاب الطبيعي – وبمساعدة الطفرات أو التهجين – وهو ما لم يقل به أي عالم متخصص محترم من قبل! اللهم إلا في أيدولوجيا التطوّر فقط!
فالتطوريون يزعمون – وعلى رأسهم داروين – أن هناك عوامل تؤدّي إلى ظهور اختلافات طفيفة كثيرة ومتوالية على فترات كبيرة من السنين في الكائن الحي الواحد – مثل الطفرات والتهجين مثلا -, يقوم الانتخاب الطبيعي بانتقاء أفضل هذه التغييرات وإبقاءها في الكائن الحي واستبعاد غير النافع منها! وهذا المفهوم كما نرى قد خلع على الانتخاب الطبيعي صفات الإنسان العاقل الذي ينظر في نتائج التجارب أو التهجين بعقله وعلمه: ليقوم بتحديد الضار منها أو النافع! وهذا وحده كفيل بهدم الفكرة من الأساس لاختلاف مفهوم الطبيعة غير العاقلة والواعية عن الإنسان!
داروين نفسه لم يستطع إخفاء ذلك من كثرة ما عول عليه في كتابه أصل الأنواع فقال:
"من أجل الإيجاز، فأنا أحيانًا أتحدث عن الانتخاب الطبيعي كقوة ذكية وبنفس الطريقة التي يتحدث بها الفلكيون عن قوة الجاذبية في التأثير على الكواكب، أو كما يتحدّث الزراعيون عن رجل يصنع سلالاته المحلية بقوة اختياره"!
والنص بالإنجليزية (1):
For brevity sake I sometimes speak of natural selection as an intelligent power in the same way as astronomers speak of the attraction of gravity as ruling the movements of the planets, or as agriculturists speak of man making domestic races by his power of selection
فلكي يهرب داروين من لا عقلانية افتراضاته التي حاول أن يشرحها عن آلية الانتخاب الطبيعي، فقد قام بتشبيهه بالرجل الذي يعمل على تحسين سلالاته الخاصة عن طريق اختياره وإبقائه على التغييرات العشوائية للطفرات أو التهجين في نفس الاتجاه الذي يحدده ويريده مسبقًا – مثلا اتجاه زيادة اللحم في الحيوان أو زيادة قوته أو سرعته أو ريشه أو قدرته على الإنجاب أو البيض إلخ – ليصنع بذلك تغييرا ناجحا مفيدا له!
النص بالإنجليزية(2):
The key is man's power of accumulative selection: nature gives successive variations; man adds them up in certain directions useful to him
ولا شك أن ذلك هو اعتراف مبكّر من داروين بفشل افتراضاته عن الانتخاب الطبيعي! لأنه حتى لو تنازلنا معه جدلًا في تشبيهاته التي خلعها على الانتخاب في جعله كالمزارعين الذين يعملون على تحسبن بعض صفات حيواناتهم الداجنة، فنحن لم نر أبدًا مزارعين أو باحثين في التجارب والطفرات على الكائنات الحية استطاعوا يومًا ما أن ينتجوا لنا عضوًا جديدًا لم يكن في الكائن الحي من قبل! يعني استحالة مثلا أن يتم عمل طفرات صناعية في كائن زاحف ليخرج له جناح! أو تهجين كائنين زاحفين ليخرج في نسلهما كائن بجناح! بل عملية التهجين نفسها لها حدود لا تتخطاها بأي حال من الأحوال! إذ كلما ابتعدت أنواع الأب والأم: صار النسل عقيما – مثل البغل العقيم الذي ينتج من تهجين الحصان والحمار – أو لا يتم التهجين أصلا – مثل محاولة تهجين حصان مع كلب مثلًا! –
يقول نورمان ماكبث في كتابه "إعادة محاكمة دارون" : "إن جوهر المسألة ينحصر فيما إذا كانت الأجناس تتنوّع بالفعل بلا حدود أم لا؟! إن الأجناس تبدو ثابتة, ولقد سمعنا جميعًا عن خيبة الأمل التي أصيب بها المربون الذين قاموا بعملهم حتى نقطة معينة لم يتجاوزوها، ليجدوا عندها أن الحيوانات والنباتات تعود إلى النقطة التي بدؤوا منها! وبالرغم مما بذلوه من جهود مضنية طوال قرنين أو ثلاثة قرون من الزمان، فلم يمكن الحصول على وردة زرقاء أو على شقائق نعمانية سوداء"!(3).
فالأمر أعقد بكثير مما كان يظنّه داروين بعلمه السطحي وبما كان مجهولًا في وقته من أن كل صفة من صفات الكائن وكل عضو له تمثيل وراثي في الشريط النووي داخل خلاياه وبشيفرات غاية في الدقة كما رأينا في الفصول السابقة!
فالانتخاب لن يعطينا صفة جديدة عن الآباء أو عن النوع الأصلي للكائن! بل إلى اليوم لا نجد تفسيرًا لتوقّف هذه الطفرات المزعومة في التطور عن العمل! لأنه إذا صح كلام داروين – ومع مليارات أنواع الكائنات الحية من حولنا – كان يتوجب علينا رؤية أية عدد مكثف من الطفرات من حولنا لكي يعمل الانتخاب الطبيعي عمله! ولكننا لا نرى ذلك أبدًا اليوم! إذ كل الكائنات في ثبات بيولوجي كبير، ولا نرى من الطفرات إلا نادرا وتكون ضارة أو بحذف معلومات وراثية: ولكنها لا تضيف أبدًا أي معلومة جديدة في شيفرات أو جينات الكائن لم تكن فيه من قبل! فضلًا عن استحالة تصور ظهور طفرات غاية في الإحكام والتعقيد لتناسب شيئا لا تعرف الطبيعة كنهه ولا يعرفه الكائن بعد!
فتحويرات أذن الإنسان مثلا يستحيل تصور ظهورها مفصولة عن معرفة خصائص الموجات الصوتية!
فمن الذي خلقها وأبدع تشكيلها على هذا الشكل الدقيق لاستقبال الصوت من جميع الاتجاهات؟!
وكذلك يستحيل تصور ظهور نظام تعرق وإخراج فضلات للأسماك وهي التي لم تخرج للبر ولا تعرف ما فيه؟!
يقول كولين باترسون وهو كبير علماء المتحجرات في متحف التاريخ الطبيعي بإنكلترا (وهو من أشهر دعاة التطوّر كذلك):"لم ينتِج أي أحد نوعًا بواسطة آليات الانتخاب الطبيعي! بل لم يقترب أحد منه .. ويدور معظم الجدال الحالي في إطار الدارونية الجديدة حول هذه المسألة"(4).
ويقول ستيفن جاي جولد، أحد أكبر المدافعين عن فكرة التطور كذلك مبينا عجز الانتخاب الطبيعي عن الخلق: "يكمن جوهر الدارونية في عبارة واحدة وهي: الانتقاء الطبيعي هو القوة الإبداعية للتغير القائم على التطور! ولا أحد ينكر أن الانتقاء الطبيعي سيلعب دورًا سلبيًا في التخلّص من العناصر غير القادرة على التكيف ولكن: النظريات الدارونية تتطلب أيضًا خلق عناصر قادرة على التكيّف"!(5)
وتتجلى لنا هذه الحقيقة التي اعترف بها ستيفن جاي جولد السابقة عن عجز الانتخاب الطبيعي في تمرير فكرة ظهور أعضاء معقدة بالتدريج – مثل العين كمثال والتي تتطلب ضبط 40 جزءًا معًا في وقت واحد لتعمل وليس بالتدريج! – تتجلى لنا هذه المعضلة فيما اعترف به داروين نفسه في الفصل السادس الذي خصصه للاعتراف بصعوبات نظريته من كتابه، والتخبطات المستحيلة التي أخذ يفترضها عن ضبط مكوّنات العين الدقيقة منسوبة إلى فاعل لم يُسمه داروين لتعمده الابتعاد عن الإشارة لأي تدخل إلهي كما قال! حيث يعلّق عالِم الفيزياء البريطاني H.S. Lipson على ذلك فيقول: "من خلال قراءتي لكتاب أصل الأنواع: فقد وجدت أن داروين كان أقل ثقة بنفسه مما يُعرف به دائمًا! مثلا الفصل (صعوبات النظرية): يُظهر لنا شكّه فيما يقوله!.. وبالنسبة لي كفيزيائي، فقد اهتممت كثيرًا بتعليقاته حول كيفية نشأة العين"!(6).
ولعل واحدة من أبرز الأخطاء التي وقع فيها داروين وألفريد والاس – وهو الذي سبق داروين بالقول بالانتخاب الطبيعي وعاصره – وغيرهما: أنهم نظروا للتغييرات التي تحدث في الكائنات الحية بسبب طفرات أو التهجين أو التكييفات البسيطة التي أودعها الله تعالى في أجسمهم للتغلب على بعض التغييرات البيئية من حولهم: نظروا إليها على أنها تطوّر (أصغر) Microevolution يعتبر دليلًا على إمكانية وقوع التطور (الأكبر) الخاص بظهور أعضاء جديدة أو كائنات جديدة مع الوقت وهو الـ Macroevolution!
فأما ما أسموه بالتطور (الأصغر): فهذا لا يخالفهم عليه أحد – مع تحفظنا على التسمية المُضللة-، وأما التطور (الأكبر) حسب نظرياتهم وفرضياتهم: فهذا الذي لم يره أي أحد ولا دليل واحد مادي أو تجريبي أو يقيني عليه إلى اليوم! وذلك لأنه لكل كائن حي حدوده الجينية التي تحكم صفاته الخاصة به ولا يتخطاها أبدا – ولذلك سماها العلماء بالحوض الجيني Genetic Pool -
وقد أكد لوثر بيربانك الذي يعد من أكفأ الأخصائيين في تربية الحيوان عن هذه الحقيقة قائلاً: "إن للتطور المتوقع في كائن ما حدودًا، وهذه الحدود تتبع قانونًا"!(7).
أما العالم الدانماركي جونسن فيقول في نفس الموضوع: "إن التنوع الذي أكدّه داروين ووالاس، يقف بالفعل عند نقطة لا يمكن تجاوزها! وهي أن مثل هذا التنوع لا يحتوي سر التطور المستمر "!(8).
وختامًا لهذا الفصل نقول:
يكفي في بيان انهيار فرضية الانتخاب الطبيعي المزعومة، ظهور العديد من الفرضيات الأخرى البديلة اليوم بعدما انهارت تمامًا أمام اكتشاف التعقيد المذهل في علم الوراثة وجينات الخلايا الحية! وذلك لأننا إذا قمنا بغض الطرف عن عدم وجود أية حفريات توازي وتترجم لنا ما افترضه داروين وغيره من وجود طفرات كثيرة جدا بطيئة ومتتالية في كل الكائنات الحية ليقوم الانتخاب الطبيعي بالاختيار من بينها: فإن عقلاء العلماء لم يستطيعوا غض الطرف عن تناقض كبير بين فكرة الانتخاب الطبيعي نفسه وبين البطء والتدرج المفترض على فترات بعيدة! لأنه لو قلنا مثلا أن الجناح الذي ظهر في الزواحف كان عبارة عن بعض البثور أو الزوائد التي لا فائدة منها على جسم الزاحف، السؤال: لماذا يبقيها الانتخاب الطبيعي وهي بغير فائدة؟! لماذا هذه الطفرات بالذات؟ هل كان يعلم الانتخاب الطبيعي مسبقًا أن هذه الطفرات بالذات هي التي سوف ينتج عنها في المستقبل عضوا كاملًا ومفيدًا مثل الجناح؟!
هنا نحن خلعنا على الانتخاب الطبيعي صفات الإنسان العاقل الواعي ذي الإدراك!
فظهرت فرضية لتقول بأن الأعضاء غير ذات الفائدة: كانت لها فوائد صغيرة في أولها لذلك لم يستبعدها الانتخاب الطبيعي, وظهرت فرضية أخرى تقول بأن الطفرات كانت تحدث على فترات متقاربة بصورة مركزة وليس متباعدة! وكل ذلك يثبت تهافته العلمي والبيولوجي والحفري يومًا من بعد يوم!
ليثبت لنا من جديد أن التطوّر كفكر وأيدلوجيا لا يقوم إلا على التأليف المستمر لفرضيات للاستهلاك الوقتي لبثّ روح الحياة فيه بضع سنوات أخرى قبل أن يتم اكتشاف زيفها وخطأها للعوام ليتم تأليف غيرها بعدها وهكذا دواليك!
(1) The Origin of Species P 6-7
(2) Ch1 : the Origin of Species
(3) Norman Macbeth, Darwin Retried: An Appeal to Reason, Harvard Common Press, Boston, 1971, pp. 32-33.
(4) Colin Patterson, "Cladistics", Interview with Brian Leek, Peter Franz, March 4, 1982, BBC.
(5) Stephen Jay Gould, "The Return of Hopeful Monsters" Natural History, Vol. 86, July-August 1977, p. 28.
(6) S. Lipson, "A Physicist's View of Darwin's Theory", Evolution Trends in Plants, Vol 2, No. 1, 1988, p. 6.
(7) Norman Macbeth, Darwin Retried: An Appeal to Reason, Harvard Common Press, New York: 1971, p. 36
(8)Loren Eiseley, The Immense Journey, Vintage Books, 1958. p. 227