title3

 banner3333

 

2. الغاية من نظريّة التطوّر

2. الغاية من نظريّة التطوّر

نظرة على ما قبل ظهور كتاب أصل الأنواع لداروين 1859م

      لعلّها من إحدى دلائل وجود خالق حكيم مدبّر عليم وقادر لدى جميع البشر من جميع الأمم قديمًا وحديثا، هي تلك العلامات الباهرات الناطقات بكمال تكوين الكائنات الحية من حولنا، بحيث تؤدّي تمامًا وظيفتها ودورها الذي اختاره الله لها في الحياة، وتتكيّف بكلّ دقّة وعناية في بيئتها الخاصة التي تعيش فيها. حتى أن العقلاء قد عدّوا هذه الحقيقة – أي وجود خالق من وراء كل هذه المخلوقات – في عداد البدهيات العقلية التي لم يشذّ عنها دين في أيّ مكان وزمان سواء كان توحيديًا أو شركيًا أو حتى وثنيًا – فكلّهم يعترفون بوجود الخالق وإن اختلفوا فيه -!

      وأمّا مع ظهور دعوات التحلّل من تبعات الدين في أوروبا منذ أكثر من قرنين من الزمان – والتي بدأتها الثورة الفرنسية لتنادي بالعلمانية بديلًا عن الدين في إدارة الحياة -، فقد تمّ تمهيد الطريق بذلك لدعوى أكبر من مجرّد فصل الدين عن الحياة العامة للناس! لقد تمّ تمهيد الطريق لدعوى تنحية الخالق نفسه!

      ومن هنا بدأت إرهاصات العديد من الأفكار المادية البحتة في الظهور والانتشار في الوسط الأوروبي، ومنه إلى العالم الذي كان يقع أكثره في قبضة الاستعمار. فظهرت وانتشرت فكرة (التوالد التلقائي) رغم غرابتها وتصادمها مع الفطرة العقلية السليمة (وهي ادّعاء أن الكائنات الحية مثل: البكتريا، ويرقات الحشرات، والفئران يمكن أن تتوالد من أشياء غير حيّة مثل: الجمادات واللحم المتروك وبقايا الطعام وأكوام الشعير!) وهي الخرافة التي دحضها العالم لويس باستير Louis Pasteur فيما بعد ليهدم إحدى أهمّ افتراضات داروين التي استدلّ بها على إمكانية نظريته! وحتى قال لويس باستير كلمته الشهيرة بعد 5 سنوات من صدور كتاب: أصل الأنواع، لداروين:

"إن عقيدة التوالد التلقائي لن تُشفى أبدًا من الضربة المميتة التي تلقتها من تجربتي البسيطة هذه"! - يقصد البسترة والتعقيم.

      كما انتشرت أيضًا بعض الفلسفات والأفكار اللاإنسانية المادية مثل: أفكار الاقتصادي البريطاني توماس مالثوس  Malthus Thomas والتي بثّها في مقالته عن مبدأ السكان Malthus Essay on the Principle of Population والتي لفت النظر فيها إلى أن سكان العالم لما تُركوا وشأنهم: فقد ازدادوا زيادة سريعة! ومن هنا – ومن حقيقة تأثّر عدد السكان بوقوع الكوارث مثل: الحروب والمجاعات والأمراض – فقد أقرّ بعض الأفكار الشيطانية للتخلّص من أكبر عدد ممكن من الناس والفقراء والضعفاء والمساكين لصالح الآخرين!

      وعلى مثل هذه الأفكار للأسف اكتسب داروين وغيره ممن سبقوه أفكارهم عن فلسفة البقاء للأقوى، وأن التواجد الدائم سوف تنتج عنه الحروب والصراعات دومًا للفوز بمصادر الحياة والغذاء!

      وبذلك وقعت إحدى أبشع جرائم القتل البطيء في القرن التاسع عشر، فبدلًا من نصيحة الفقراء بالنظافة تم تشجيعهم على سلوكيات القذارة! وبدلًا من مراعاة الأبعاد والمقاسات الصحية في الشوارع والبيوت تمّ تضييقها عليهم وحشرهم فيها ليذوقوا حياة البؤس والمرض الفتاك! وبدلًا من بناء القرى بعيدًا عن المستنقعات والبرك الراكدة تمّ إنشاؤها بجوارها! بل وحتى الأطفال الصغار في سنّ التاسعة والعاشرة لم يسلموا من هذه اللاإنسانية حيث كانوا يدفعونهم للعمل في مناجم الفحم لست ساعات يوميًا حتى هلك منهم الآلاف!

للمزيد من التوثيقات مثل الاطلاع على ما جاء في (الأجندة العلمية السرّية للنازيين):

Michael J. Behe, Darwin's Black Box, New York  Free Press, 1996, pp. 232-233

      أيضًا ظهرت قبل داروين العديد من الأفكار التي تحاول فرض تفسيرات مادية للتنوّع المعجز في الكائنات الحيّة وتناغمها مع مختلف بيئاتها، وبعيدًا عن فكرة الخالق وعنايته وتدبيره وإبداعه!

      فكانت من أشهر هذه الأفكار هي أفكار الفرنسي جان باتيست لامارك Lamarck والتي بدأها في 1801م ثم طوّرها في كتاباته 1815م، وهي التي تلخّصت في ثلاثة تفسيرات ثبت خطأها كلها فيما بعد! – وبذلك يتبيّن لنا من جديد سقوط عدة أركان أخرى مما بنى عليه داروين نظريته! – وتلك الثلاثة كانت:

1) التأثير المباشر للعوامل الطبيعية.

      حيث ظنّ لامارك أن ظاهرة التكيّف الجسدي (المحدود) الذي أعطاه الخالق لمخلوقاته ليواجهوا به بعض التغييرات من حولهم – مثل: بعض التغيرات المناخية أو في الارتفاع فوق الجبال إلخ – ظنّ أنها يمكن مع الوقت وتخيّل المزيد منها – وكأنّها بيد الكائن أو الطبيعة! – أن تخرج لنا أعضاءً جديدة مثلًا لم تكن في الكائن الحيّ من قبل – وبالتالي تخرج لنا كائنات حيّة جديدة تمامًا عن سابقتها بعد فترات طويلة! 

      وبالطبع تمّ كشف هذا الخلط من بعد قطع شوط كبير في علوم التشريح ووظائف الأعضاء. حيث تبيّن جليًا للعلماء الفرق بين التكيّف – وهو تغيرات طفيفة في نفس صفات الكائن وضعها الله في تركيبته أصلًا كبدائل تظهر عند الحاجة – وبين التطوّر وظهور أعضاء كاملة أو كائنات كاملة جديدة وهو ما لم يحدث ولم يتم إثباته إلى اليوم لا بالحفريات وآثار الكائنات الحية الغابرة، ولا بعلوم الوراثة والجينات التي تبيّن لنا أن كل صفة من صفات أبسط كائن حيّ هي عبارة عن سلسلة طويلة من الشيفرات الوراثية في حمضه النووي الوراثي الخاص به! والسؤال: من الذي سيقوم بفكّ وتغيير وإعادة ترتيب هذه الشيفرات في حمض الكائن القابع في خلاياه الحية؟! والتي لا يستطيع الكائن الحي نفسه التغيير فيها – فضلًا عن الطبيعة العمياء - ؟!

2) تأثير الاستخدام وعدم الاستخدام:

      حيث ادّعى لامارك أن التغييرات الجسدية التي تحدث أثناء حياة الكائن الحي سوف يتمّ توريثها إلى أبنائه جيلًا من بعد جيل! ودلّل على ذلك بقصّته الافتراضية الشهيرة عن كائن أشبه بالغزال ومع قيامه بمرور الوقت بمد رقبته إلى أعالي الأشجار لتناول الثمار المرتفعة: يتسبّب ذلك الاستخدام الزائد في طول رقبته وتوارث زيادتها جيلًا من بعد جيل وإلى أن تظهر الزرافة المعروفة لنا اليوم! وكما نلاحظ أن هذا التفسير يكمل التفسير السابق في عمله، إلا أنه لم يقبل به العقلاء في زمانه سواء من العلماء أو الناس العاديين ما عدا داروين للأسف!.. إذ يعرف الناس أن الحدّاد أو النجّار مثلًا ومع اكتساب أيديهم للقوّة العضلية أكثر من غيرهم .. إلّا أنّه لا يدّعي عاقل مطلقًا أنّ هذه التغيّرات التي وقعت في أيديهم سوف يتمّ توريثها إلى أبنائهم فيولدون أقوياء الأيدي كآبائهم! – وهو ما يعرف بفكرة توريث الصفات المكتسبة -.

      ومثل هذا النقد البسيط كان ليغني الناس عن تكلّف تفنيد مثل هذه الأفكار التي غايتها إلغاء دور الخالق كما هو واضح! ولكن رغم ذلك، فقد انبرى أكثر من عالم متخصّص منذ قرابة القرن من الزمان لإسقاط هذه الفكرة علميًا وعمليًا وبالتجارب المثبتة: وقبل حتى اكتشاف الجينات الوراثية والحمض النووي! ولعل من أشهرهم هو العالم أوجست وايزمان August Weismann، والذي قام بقطع ذيول عشرات الفئران لأكثر من 18 جيل كاملة، فكانت النتيجة في كل مرّة أن تخرج أبناؤهم بذيول!.. أيضًا اشتهرت تجربة الباحثين فيليبس وكاسل Castle - Phillips عام 1909م والتي قاما فيها بإزالة مبيض أنثى خنزير غينيا Guinia Pig بيضاء اللون، ليزرعا مكانه مبيض أنثى سوداء اللون، ثم قاما بتلقيح هذه الأنثى البيضاء بذكر أبيض، فكان الجيل الناتج أسود اللون بدلًا من أن يكون أبيض اللون في الحالة العادية! مما يعني أن صفة اللون قد اكتسبت من خلال لون الأنثى السوداء التي تم زرع مبيضها في الأنثى البيضاء، ودلّ ذلك على أن الخلايا التي تحمل صفات الجسد هي تلك التي في الأعضاء التناسلية – مثل: المبيضين عند الإناث والخصيتين عند الذكور – وليست التي تحملها الخلايا الجسدية ولا التغييرات التي تحدث في الجسد!

3) التهجين:

      حيث تطرّف لامارك في افتراض قدرات وهمية للتهجين الذي يقوم به الناس منذ قديم الزمان بين الأنواع والفصائل المتقاربة لتحسين صفات نسلها أو اصطفاء بعض الصفات، فادّعى أن هذا التهجين مع الزمن يمكن أن ينتج لنا أنواعًا جديدة بأكملها أو ينتج ظهور أعضاء جديدة!

      ورغم أن داروين نفسه اعترف في كتابه بانسداد هذا الطريق – أي طريق التهجين – عن إظهار مثل هذه القدرات الموهومة عن التهجين – لأن كل الكائنات الحية لا تتعدّى سماتها الرئيسية بالتهجين نتيجة لحدود ما يعرفه العلماء اليوم بالحوض الجيني Genetic Pole لكل كائن والذي لا يستطيع تخطيه إلى الأنواع الأبعد إلا مات النسل وتشوّه أو كان عقيمًا (مثلما يحدث في البغل العقيم الناتج عن تزاوج الحصان بالحمار) – فرغم أن داروين عرف ذلك إلا أنه اختار الاعتماد عليه أيضًا في بناء نظريته لعل المستقبل – الجندي المجهول لدى داروين - يأتي بما افترضوه!

      ولكن كلّ ذلك تهدم – وبأسرع مما تمنى – على يد عالم الوراثة غريغور يوهان مندل! والذي خرج بنتائج أبحاثه في نفس وقت خروج داروين بكتابه ولكنها لم تلق الاهتمام اللائق بها ولا الحفاوة المساوية لنظريّة التطوّر آنذاك!

----------------------


وخلاصة هذا الفصل:

      أن هذه هي الحالة العلمية والأفكار السائدة التي اعتمد عليها داروين في نظريّة التطوّر لتنحية دور الخالق من حياته! ومدفوعًا في مسيرته وكتبه بعدم التخصّص العلمي – حيث قد فشل في إكمال دراسته العلمية وكذا الدينية واكتفى بالترحال حول العالم والملاحظات الشخصية على ظهر السفينة بيجل - ومدفوعًا أيضًا بنظرته المادية للأشياء نتيجة ما كان شائعًا في عصره من توجه كبير إلى العلمانية، وكذلك ما قابله في حياته من مواقف تغذي هذه النزعة المجافية للإله أو الرب أو الخالق! والتي بدأت لديه بافتراضات التطور - والتي كان يعترف فيها بنفسه على ضعفها وانعدام أدلتها وكما سنرى من كتابه فيما بعد-! وإلى أن انتهت به نظريته للأسف إلى مقولته الشهيرة التي سجّلتها عليه المؤرّخة الداروينية جيرترود هيميلفارب Gertrude Himmelfarb:

"Disbelief crept over me at a very slow rate, but was at last complete"

" بدأ الكفر بالله في الزحف عليّ بمعدل بطىء جدًا: إلا أنه قد اكتمل أخيرًا..!!!"

Gertrude Himmerfarb, Darwin and the Darwinian Revolution, Elephant Paperbacks, Chicago, 1962, p. 381 Emphasis added