title3

 banner3333

 

(17) الذنوب تطفئ من القلب نار الغيرة

(17)

الذنوب تطفئ من القلب نار الغيرة

      من عقوبات الذنوب: أنّها تطفئ من القلب نارَ الغيرة التي هي لحياته وصلاحه كالحرارة الغريزية لحياة جميع البدن. فالغيرة حرارته وناره التي تُخرج ما فيه من الخَبَث والصفات المذمومة، كما يُخرج الكِيرُ خَبَث الذهب والفضة والحديد. وأشرف الناس وأعلاهم همّةً أشدُّهم غيرة على نفسه، وخاصته، وعموم الناس.

      ولهذا كان النبي (صلى الله عليه وسلم) أغيرَ الخلق على الأمة، والله سبحانه أشدّ غيرةً منه، كما ثبت في الصحيح عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: "أتعجبون من غيرة سعد؟ لأنا أغيَرُ منه، والله أغيَرُ منّي" [صحيح البخاري: (6846)، وصحيح مسلم (1499)]. وفي الصحيح أيضًا عنه أنّه قال في خطبة الكسوف: "يا أمَّةَ محمَّد، ما أحدٌ أغيرَ من الله أن يزنيَ عبدُه، أو تزنيَ أمَتُه" [صحيح البخاري (1044)، صحيح مسلم (901)].

      وفي الصحيح أيضا عنه أنّه قال: "لا أحدَ أغيرُ من الله، من أجل ذلك حرّم الفواحشَ ما ظهر منها وما بطن. ولا أحدَ أحبُّ إليه العذرُ من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشِّرين ومنذرين. ولا أحدَ أحبُّ إليه المدحُ من الله، من أجل ذلك أثنى على نفسه" [صحيح البخاري (4634)، صحيح مسلم (2760)].

      فجمع في هذا الحديث بين الغيرةِ التي أصلُها كراهةُ القبائح وبغضُها، ومحبةِ العذرِ الذي يوجب كمال العدل والرحمة والإحسان. وأنّه سبحانه مع شدّة غيرته يحِبّ أن يعتذر إليه عبدُه، ويقبل عذرَ من اعتذر إليه، وأنّه لا يؤاخذ عبيده بارتكاب ما يَغار من ارتكابه حتى يُعذِرَ إليهم. ولأجل ذلك أرسل رسله، وأنزل كتبه إعذارًا وإنذارًا.

      وهذا غاية المجد والإحسان، ونهاية الكمال، فإنّ كثيرًا ممن تشتدّ غيرته من المخلوقين تحمله شدّةُ الغيرة على سرعة الإيقاع والعقوبة من غير إعذار منه، ومن غير قَبولي لِعذر من اعتذر إليه؛ بل يكون له في نفس الأمر عذرٌ، ولا تَدَعُه شدةُ المغيرة أنَ يقبل عذرَه. وكثير ممن يقبل المعاذير يحمله على قبولها قلّةُ المغيرة حتى يتوسّع في طرق المعاذير، ويرى عذرًا ما ليس بعذر، حتى يعذِر كثير منهم بالقدَر.

      وكلٌّ منهما غيرُ ممدوح على الإطلاق. وقد صحّ عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: "إنّ من الغيرة ما يحبّها الله، ومنها ما يبغضه الله. فالتي يبغضها الغيرةُ في غير ريبة". وذكر الحديث [رواه النسائي: (5/ 78)، وصححه الألباني في صحيح النسائي]. وإنّما الممدوح اقتران المغيرة بالعذر، فيغار في محلّ الغيرة، ويعذِر في موضع العذر. ومن كان هكذا فهو الممدوح حقًّا.

      ولما جمع سبحانه صفات الكمال كلَّها كان أحقَّ بالمدح من كلّ أحد، ولا يبلغ أحد أن يمدحَه كما ينبغي له، بل هو كما مدح نفسَه وأثنى على نفسه.

      فالغيور قد وافق ربّه سبحانه في صفة من صفاته، ومن وافق الله في صفة من صفاته قادته تلك الصفة إليه بزمامه، وأدخلَتْه على ربّه، وأدْنَتْه منه، وقرّبتْه من رحمته، وصيّرتْه محبوبًا له. فإنه سبحانه رحيم يحبّ الرحماء، كريم يحبّ الكرماء، عليم يحبّ العلماء، قوي يحبّ المؤمن القوي، وهو أحب إليه من المؤمن الضعيف، حييّ يحبّ أهل الحياء، جميل يحبّ الجمال، وِتْر يحبّ الوتر. ولو لم يكن في الذنوب والمعاصي إلاّ أنها توجب لصاحبها ضدَّ هذه الصفات، وتمنعه من الاتصاف بها لكفى بها عقوبةً. فإنّ الخطرة تنقلب وسوسة، والوسوسة تفسير إرادةً، والإرادة تقوى فتصير عزيمة، ثم تفسير فعلًا، ثم تفسير صفة لازمة وهيئة ثابتة راسخة، وحينئذ يتعذر الخروج منها كما يتعذر عليه الخروج من صفاته القائمة به.

      والمقصود وفي أنه كلّما اشتدّت ملابسته الذنوب أخرجت من القلب الغيرةَ على نفسه وأهله وعموم الناس، وقد تضعف في القلب جدًّا حتى لا يستقبح بعد ذلك القبيح، لا من نفسه ولا من غيره. وإذا وصل إلى هذا الحد فقد دخل في باب الهلاك.

      وكثير من هؤلاء لا يقتصر على عدم الاستقباح، بل يحسِّن الفواحش والظلم لغيره، ويزينه له، ويدعوه إليه، ويحثّه عليه، ويسعى له في تحصيله. ولهذا كان الديّوث أخبث خلق الله، والجنة حرام عليه.

      وكذلك محلّل الظلم والبغي لغيره، ومزيّنه له. فانظر ما الذي حملت عليه قلة المغيرة! وهذا يدلّك على أنّ أصل الدين الغيرة، ومن لا غيرة له لا دين له.

      فالغيرة تُحمي القلبَ، فتحمَى له الجوارحُ، فتدفع السوء والفواحش. وعدمُ الغيرة يميت القلبَ، فتموت الجوارح، فلا يبقى عندها دفع البتة.

ومَثلُ الغيرة في القلب كمثلِ القوة التي تدفع المرض وتقاومه، فإذا ذهبت القوة وجد الداءُ المحل قابلًا، ولم يجد دافعًا، فتمكّن، فكان الهلاك. ومَثلُها مثل صياصي الجاموس التي يدفع بها عن نفسه وولده، فإذا كُسِرَت طمع فيه عدوّه.


 

[الداء والدواء: 163 - 168]

للإمام ابن قيّم الجوزية رحمه الله.