title3

 banner3333

 

محاكمة علم الكون

محاكمة علم الكون

      تم مؤخرا نشر كتاب يحمل عنوانا مستفزًا: "محاكمة علم الفلك - نبذ كامل ومدمّر للفشل الذريع للانفجار العظيم". الكتاب ذو المائتين وخمسة وأربعين صفحة من تأليف روي مارتن، ومن منشورات جامعة صحافة أمريكا، في لانهام بولاية مريلاند الأمريكية.

      مؤلّف الكتاب، على نحو ملفت بما يكفي، ليس مؤمنًا بالخلق، بل ولا عالم فضاء، مما سيدفع بلا شك العديد من علماء الفلك والفضاء التطوريين للسخرية من انتقاداته أو تجاهلها. ورغم هذا، فاعتراضاته على نظرية الانفجار العظيم تمثّل صدى لما يظنّه كثير من الناس. إنه يفتتح "مقدمة" كتابه بهذه الأفكار التي أشبه ما تكون بالتقرّحات!

      "إن علم الفضاء، أو بالأحرى علم الفلك، يوجد في ورطة. وفي الغالب فإنه يكون بجانب نفسه. لقد انطلق من المنهج العلمي ومن مبادئه، وانحرف إلى الغرائب. لقد حوّل الإبداع الخيالي إلى شكل فني، وأبدى رغبة جاهزة للاستسلام أو لتجاهل القوانين الأساسية، كالقانون الثاني للدينامية الحرارية وسرعة الضوء القصوى، كل هذا تطبيقًا لحكمة "الحفاظ على الوضع السابق". ربما لا يوجد "علم" يتلقّى مزيدًا من النقد الذاتي، أو الندم، أو الشك. لا شيء آخر يبدو تائهًا ومضللا بذات القدر، ومحصورًا في عقيدة متعبة (1).

      وبعدها يشرع مارتن صفحة تلو صفحة، وفصلًا تلو فصل، في إثبات سخافة "الفشل الذريع للانفجار العظيم" بالوثائق والصور.

      لا يقوم الانفجار العظيم على أساس الملاحظة أو التجربة، كما هو صحيح في العلم الشرعي، إنما هو التخرّص والرياضيات الباطنية.

      إنها ليست نظرية، بل يمكن فقط أن يكون مرجعها على نحو ضعيف فرضية ما ... إن قوانين الفيزياء من قبيل انحفاظ المادة، القصور، وغيرها من القوانين غير القابلة للتغيير على الأرض، تنتفي في الفضاء على يد الرياضيات(2).

      لا ينتقد مارتن علم الفضاء المبني على الملاحظة بالطبع، بل الاستنباطات الفلكية والتخمينات التي أساءت استعماله.

ومع أن مارتن بنفسه ليس عالم فضاء، فهناك عدد مهم من علماء فضاء محترفين ممتازين يرفضون بدورهم الانفجار العظيم. حيث علّق مؤخرًا ثلاثة فلكيين جدّ بارزين على الأمر بقولهم:

      "... تنطلق النظرية على نحو متصاعد من الفيزياء المعروفة، وصولًا إلى وضع مصدر طاقة الكون نهائيًا فيما يشبه الظرف الأولي. ويفترض أن الطاقة آتية من مكان ما آخر. ولأن "المكان الآخر" لا يمكنه أن يتصف بأية خصائص تروق لعالم النظريات، فإن مناصري القول بالفلك الناشئ عن الانفجار العظيم يربحون لصالحهم عددًا مهمًا من المتغيّرات الحرّة التي يمكنها ضبطها لاحقًا كلما سنحت بذلك الفرصة"(3).

      ومن ثمّ فإنهم يتوصلون للنتيجة المعقولة التالية:

      "لا نظنّ أن العلم يجب ممارسته بتلك الطريقة ... في الشكل الشائع لعلم الفلك حاليًا ... فإن قوانين الفيزياء معتبرة على أنها معروفة سلفًا وأي تفسير للوضع الأخير فيطلب بواسطة التخمين في المتغيّرات الملائمة للوضع البدئي. إننا نظنّ أن هذه المقاربة لا تستحق التقدير العالي الذي تحظى به على نطاق واسع من لدن علماء الفلك"(4).

هؤلاء الفلكيون ليسوا مؤمنين بالخلق، فهم يؤمنون أنه لم يوجد أبدًا أي خلق ويؤمنون بأبدية الكون وأنه يقبع في نوع من "الحالة الثابتة".

      وفي الواقع، هناك العديد من نظريات "الحالة الثابتة"، إضافة إلى نظريات "الخلق المستمر"، وجميعها مناقض طبعًا لنصوص الوحي العميقة والصحيحة. وأيضًا، فسواء تعلّق الأمر بالقانون الأوّل للدينامية الحرارية، أو القانون الثاني أو كليهما، فهذه القوانين - وهي أصح ما برهن عليه في ميدان العلوم - تسجّل أنه لا وجود الآن لمادة/طاقة مخلوقة أو فانية، بل كل ما في الكون من مادة/طاقة تؤول للتناقص والفناء.

يتناقض الانفجار العظيم بوضوح مع القانون الأوّل للدينامية الحرارية، بكل مادة/طاقة الكون الخارجة فجأة إلى الوجود من العدم - إما عن طريق "تقلّب كمي" من الفراغ الأولي أو حسب بعض الاقتراحات عن طريق ما يسمى "ثقبًا" من كون خيالي ما. يشترط القانون الثاني أن عدم النظام (الاضطراب) بالضرورة سيتزايد في الكون الذي من المؤكّد أنه مجموعة (أو نظام) مغلقة، لو أنا أنكرنا وجود الله، فمن الشذوذ إذن القول أن المادة/طاقة، التي ظهرت تلقائيًا في الانفجار العظيم ستتطوّر إلى الكون عالي التعقيد الموجود الآن.

      وعلى أيّ حال، فالقانون الثاني لا يعتبر غير قابل للخرق بالنسبة لهؤلاء الفلكيين لو تداخل مع تخميناتهم الفلكية. وبالإضافة للاستثناء السابق، فيجب أيضًا نبذه لسبب آخر: تفسير وجود المجرّات و"المادة المظلمة" التي يمكن أن يتطلّبها أصلها وحركاتها. يشعر عالم الفيزياء الفلكية لورنس شولمان من جامعة كلاركسون وعلماء آخرون أن الزمن يمكن أن يسير في الاتجاه المعاكس، جنبًا إلى جنب القانون الثاني. يوضّح الكاتب في مجال العلوم ماركوس شاون لوازم هذا القول قائلا:

      "يحتوي الكون على جهات حيث يمكن للحليب أن يحرّك نفسه خارج القهوة وللبيض ألا ينكسر ... ويمكن للفكرة القائمة على أنه ربما توجد جهات يعود فيها الزمن إلى الوراء أن تفسّر وجود المادة المظلمة ... ستظهر حسابات شولمان في عدد قادم من رسائل المجلة الفيزيائية. اللهم إلا في جهة الزمن فيها معكوس، حيث أن هذه الحسابات منشورة سلفًا، إلا إنها ستكون في تلك الجهة غير مكتوبة الآن"(5).

صدر المقال الذي يرجع إليه شاون في 27/12/1999، رسائل المجلة الفيزيائية. وفي تعليق لاحق، يشرح كاتب آخر في مجال العلوم هذا المفهوم بقوله:

"يفترض شولمان في دراساته أن الكون يتوسّع ثم يتقلّص ... وفي الزمن المعكوس يجب أن تتشكّل الأجسام السماوية في مستقبلنا البعيد وأن تكون قد جربت مسبقًا التحوّل الكوني".

      ومن المحتمل أن تشكل هذه الأجسام المتراجعة في الزمن المعكوس، والتي لا يمكن رؤيتها فيما بعد، الكمّيات الهائلة من "المادة المظلمة" التي يحتاجها الانفجار العظيم.

      وبالنسبة لنا، فمن المفاجئ وعلى نحو خاص أن الكثير من العلماء المتيديّنين يرغبون في إبعاد الدينية من أجل قبول "الانفجار العظيم" الذي يتخيّلونه على أنه هو نفس خلق الله. حتى أنهم يستعملون أيقونة "العصر الحديث" وما يسمّى بالمبدأ الإنسي، والذي من المحتمل أنه يربط ثوابت فلكية عديدة مع علم الفلك المؤسس على القول بالانفجار العظيم كدليل على حدوث هذا الأخير. لكن رغم ذلك، عليهم أن يتحقّقوا أن كل هذه التسويات ليست منافية فقط لكلام الله، بل وأيضًا لآراء السواد الأعظم من الفلكيين التطوريين.

      لنحو عقد من الزمن، شهد عدد متزايد من العلماء في كتب ومقالات مشهورة، أن بمقدورهم تحديد إشارة على منحى الفلك منسلة من بين البيانات المزعجة للفيزياء وعلم الفلك. وقد نقل هذا الادّعاء بشكل واسع في وسائل الإعلام، ربما مؤيدًا عوام الناس لأن يظنوا أن نوعًا جديدًا من الإجماع العلمي سائر في دعم المعتقدات المؤمنة بالقوى الخارقة للطبيعة. وفي الحقيقة، لا أحد من هذه الأدلة المزعومة يمكن العثور عليه في صفحات الجرائد العلمية.

إن النماذج الأقوى للمبدأ الإنسي، التي تشهد أنه مطلوب من الكون بشكل ما أن ينتج "نظامًا لمعالجة المعلومات" ذكيًا، ليست مأخوذة على محمل الجدّ من قبل أغلب العلماء أو الفلاسفة"(7).

      كاتب التقييم المذكور أعلاه أستاذ لمادة الفيزياء بجامعة هاواي. معاد بوضوح للإيمان بوجود الله، لكنه دقيق في تقييمه لمدى تأثير المبدأ الإنسي.

بقلم: د. هنري موريس (عالم أمريكي وبروفسور في الهندسة الهيدروليكية، ومؤسس معهد الأبحاث المختصة بالخلق).

https://www.icr.org/article/872/256

(بالتصرّف)


 

المصادر:

1-Roy C. Martin, Jr., Astronomy on Trial (Landham, Md., University Press of America, 1999), p. xv.2 Ibid., p. 14.

3 Geoffrey Burbridge, Fred Hoyle, and Jayant V. Marlikar, "A Different Approach to Cosmology," Physics Today (volume 52, April 1999), p. 39.4 Ibid.

5 Marcus Chown, "Unwrite This," New Scientist (vol. 164, Nov. 27, 1999), p. 11.

6 P. Weiss, "Time's Arrow May Make U-Turns in Universe," Science News (vol. 157, January 1, 2000), p. 6.

7 Victor J. Stenger, "Anthropic Design: Does the Cosmos Show Evidence of Purpose?" Skeptical Inquirer (vol. 23, July/August 1999), pp. 40,42.