title3

 banner3333

 

(26) استئناس بما كشفه العلم في العصور الحاضرة

استئناس بما كشفه العلم في العصور الحاضرة

      ولعمري؛ لنحن أحق أن نعجب من هذا العجب؛ فإننا نفهم أنه لو ساغ مثله في عصور الجاهلية الأولى ما كان ليسوغ اليوم وقد ملئت الأرض بالآيات العلمية التي تفسّر لعقولنا تلك الحقائق الغيبية.

      إن من أقرب هذه الآيات إلى متناول الجمهور آية الهاتف "التليفون"ز فقد أصبح الرجلان يكون أحدهما في أقصى المشرق والآخر في أقصى المغرب، ثم يتخاطبان ويتراءيان، من حيث لا يرى الجالسون في مجلس التخاطب شيئًا، ولا يسمعون إلا أزيزًا كدوي النحل الذي في صفة الوحي.

      فإن كانوا يريدون آية علمية أوضح من هذا تمثّل لهم الوحي تمثيلًا، وتريهم من طريق التجارب - التي لا يؤمنون إلا بها - أنّ اتّصال النفس الإنسانية بقوة أعلى منها قد يُحدث فيها ظاهرةً من جنس هذه الظاهرة، وينقش فيها معلومات لم تكن مخزونة في العقل ولا في الحسّ قبل ذلك، فها قد أراهم الله تلك الآية العجيبة في "أعجوبة التنويم المغناطيسي" فقد أصبح الرجل القوي الإرادة يستطيع أن يتسلّط بقوة إرادته على من هو أضعف منه حتى يجعله ينام بأمره نومًا عميقًا لا يشعر فيه بوخز الإبر، وهناك يكون رهين إشارته، وتنمحي إرادته في إرادته: فلو شاء أن يمحو من نفسه رأيًا أو عقيدة لمحاها بكلمة واحدة، بل لو شاء أن يمحو من صدره اسم نفسه، ويلقنه اسمًا آخر يقنعه بأنه هو اسمه لما وجد منه إلا إيمانًا وتسليمًا، ولأصبح اسمه الحقيقي نسيًا منسيًّا، ولبقي هذا الاسم المصنوع منقوشًا على قلبه ولسانه بعد أن يستيقظ إلى ما شاء الله، فإذا كان فعل هذا الإنسان بالإنسان فما ظنك بمن هو أشد منه قوة؟

      فذلك مَثل حامل الوحي ومتلقيه - عليهما السلام - هذا بشر مطواعٌ ذو روح صاف يقبل انطباع العلوم فيه، وذاك ملك شديد القوي ذو مرة يحمل إليه رسالته ويقرئها إياه، فلا ينسى إلا ما شاء الله.

      بَيْدَ أن بعدًا شاسعًا بين هذا الوحي النبوي، ووحي الناس بعضه لبعض، فالناس كما عرفت قد يوحون زخرف القول غرورًا، وكثيرًا ما ترك وحيهم في نفس متلقيه أعراضًا عقلية أو بدنية يصعب علاجها. فأين هذا من الوحي بين رسولين مؤيدين اصطفاهما الله لرسالته: رسول الله من الملائكة، ورسول من الناس؟ فأما الرسول الملكي فإنه كما علمت لا يوحي إلا الحق، ولا يأمر إلا بالخير، وأما الرسول البشري فإنه لا يزال من بعد كما كان من قبل، ثابتَ الفؤاد كاملَ العقل قويَّ النفس والبدن {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124].


 

[النبأ العظيم نظرات جديدة في القرآن الكريم: 104 - 105]