title3

 banner3333

 

(23) نظرية الوحي النفسي ليست جديدة

نظرية الوحي النفسي ليست جديدة

      ومن تتبّع أنواع المجادلات التي حكاها القرآن عن الطاعنين فيه رأى أن نسبتهم القرآن إلى تعليم البشر كانت هي أقلّ الكلمات دورانًا على ألسنتهم، وأن أكثرها ورودًا في جدلهم هي نسبته إلى نفس صاحبه، على اضطرابهم في تحديد تلك الحال النفسية التي صدر عنها القرآن: أشعر هي، أم جنون، أم أضغاث أحلام.

      فانظر: كم قلَّبوا من وجوه الرأي في هذه المسألة؛ حتى إنهم لم يقفوا عند الحدود التي يمكن افتراضها في كلام رصين كالقرآن، وفي عقل رصين كعقل صاحبه، بل ذهبوا إلى أبعد الأحوال النفسية التي يمكن أن يصدر عنها كلام العقلاء والمجانين. إن ذلك لمن أوضح الأدلة على أنهم لم يكونوا يشيرون بهذا الوجه أو ذاك إلى تهمة محقّقة لها مثار في الخارج أو في اعتقادهم، وإنما أرادوا أن يدلوا بكل الفروض والتقادير مغمضين على ما فيها من محال وناب ونافر، ليثيروا بها غبارًا من الأوهام في عيون المتطلعين إلى ضوء الحقيقة، وليلقوا بها أشواكًا من الشك في طريق السائرين إلى روض اليقين.

      ولقد نعلم أنهم كانوا في قرارة أنفسهم غير مطمئنين إلى رأي صالح يرضوه من بين تلك الآراء، وأنهم كانوا كلما وضعوا يدهم على رأي منها وأرادوا أن ينسجوا منه للقرآن ثوبًا وجدوه نابيًا عنه في ذوقهم، غير صالح لأن يكون لبوسًا له، فيفزعون من فورهم إلى تجربة رأي ثان، فإذًا هو ليس بأمثل قياسًا مما رفضوه، فيعمدون إلى تجربة ثالثة. وهكذا دواليك ما يستقرون على حال من القلق. فإن شئت أن تطلع على هذه الصورة المضحكة من البلبلة الجدلية فاقرأ وصفها في القرآن: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} [الأنبياء: 5]. فهذه الجملة القصيرة تمثّل لك بما فيها من توالي حروف الإضراب مقدار ما أصابهم من الحيرة والاضطراب في رأيهم، وتريك من خلالها صورة شاهد الزور إذا شعر بحرج موقفه: كيف يتقلب ذات اليمين وذات الشمال. وكيف تتفرق به السبل في تصحيح ما يحاوله من محال {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [الإسراء: 48]


 

[النبأ العظيم نظرات جديدة في القرآن الكريم: 96 - 98]