title3

 banner3333

 

(15) أمثلة من النبوءات القرآنية (فيما يتصل بمستقبل المؤمنين)

أمثلة من النبوءات القرآنية (فيما يتصل بمستقبل المؤمنين)

[المثال الأوّل:]

كان القرآن في مكة يقصّ على المسلمين من أنباء الرسل ما يثبت فؤادهم، ويعدهم الأمن والنصر الذي كان لمن قبلهم {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171 – 173] {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51] فلما هاجروا إلى المدينة فرارًا بدينهم من الفتن ظنّوا أنّهم قد وجدوا مأمنهم في مهاجرهم، ولكنهم ما لبثوا أن هاجمتهم الحروب المسلحة من كل جانب، فانتقلوا من خوف إلى خوف أشدّ. وأصبحت كل أمنيتهم أن يجيء يوم يضعون فيه أسلحتهم، وفي هذه الأوقات العصيبة ينبئهم القرآن بما سيكون لهم من الخلافة والملك، علاوة على الأمن والاطمئنان، فما هذا؟ أأحلام وأماني؟ لا، بل وعد مؤّكد بالقسم: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور: 55].

روى الحاكم وصححه عن أبي بن كعب قال: (لما قدم رسولُ الله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وأصحابُه المدينةَ وآوَتْهُمُ الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة. وكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح ولا يصبحون إلا فيه، فقالوا: أترون أنا نعيش نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله؟ فنزلت الآية) [المستدرك (2\ 401)، وصححه الحاكم]. وروى ابن أبي حاتم عن البراء قال: (نزلت هذه الآية ونحن في خوف شديد).

فانظر كيف جاء تأويلها على أوسع معانيها في عصر الصحابة أنفسهم الذين وقع لهم خطاب المشافهة في قوله: {مِنْكُمْ} فبُدلوا من بعد خوفهم أمنًا لا خوف فيه، واستخلفوا في أقطار الأرض فورثوا مشارقها ومغاربها.

وتأمّل قوله في هذه الآية {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وقوله في الآية الآخرى {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحجّ: 40 – 41] تجد فيها نبأً آخر عن سر ما يبتلى به المؤمنون أحيانًا من انتقاص أرضهم وتسلط أعدائهم عليهم {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال: 53].

[المثال الثاني:]

مُنع المسلمون من دخول مكة عام الحديبية، واشترطت عليهم قريش إذا جاءوا في العام المقبل أن يدخلوها عزلًا من كل سلاح إلا السيوف في القُرُب، فهل كان لهم أن يثقوا بوفاء المشركين بعقدهم وقد بلوا منهم نكث العهود وقطع الأرحام وانتهاك شعائر الله؟ أليسوا اليوم يحبسون هديهم أن يبلغ محله؟ فماذا هم صانعون غدًا؟ على أنهم لو صدقوا في تمكين المسلمين من الدخول فكيف يأمن المسلمون جانبهم إذا دخلوا عليهم دارهم مجردين من دروعهم وقوتهم، ألا تكون هذه مكيدة يراد منها استدراجهم إلى الفخ؟ وآية ذلك اشتراط تجردهم من السلاح إلا السيف في القراب، وهو سلاح قد يطمئن به المسلمون إلى أنهم لن ينالوهم بأيديهم ورماحهم، ولكنه لا يأمنون معه أن ينالوهم بسهامهم ونبالهم، في هذه الظروف المريبة يجيئهم الوعد الجازم بالأمور الثلاثة مجتمعة: الدخول، والأمن، وقضاء الشعيرة {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ} [الفتح: 27] فدخلوها في عمرة القضاء آمنين، ولبثوا فيها ثلاثة أيام حتى أتموا عمرتهم وقضوا مناسكهم .. الحديث أخرجه الشيخان.

[المثال الثالث:]

كان المشركون يجادلون المسلمين في مكة قبل الهجرة، يقولون لهم: إن الروم يشهدون أنهم أهل كتاب، وقد غلبتهم المجوس، وأنتم تزعمون أنكم ستغلبوننا بالكتاب الذي أنزل عليكم، فسنغلبكم كما غلبت فارس الروم؛ فنزلت الآية {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 1 - 4].

لقد كان الإخبارُ بهذا النصر وبأنه كائن في وقت معيّن إخبارًا بأمرين كل منهما خارج عن متناول الظنون، ذلك أن دولة الروم كانت قد بلغت من الضعف حدًّا يكفي من دلائله أنها غزيت في عقر دارها وهزمت في بلادها كما قال تعالى: {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ}، فلم يكن أحد يظنّ أنها تقوم لها بعد ذلك قائمة، فضلًا عن أن يحدد الوقت الذي سيكون لها فيه النصر؛ ولذلك كذب به المشركون وتراهنوا على تكذيبه، على أن القرآن لم يكتف بهذين الوعدين، بل عززهما بثالث، حين يقول: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم: 4 - 5]، إشارة إلى أن اليوم الذي يكون فيه النصر هناك للروم على الفرس سيقع فيه ها هنا نصر للمسلمين على المشركين، وإذا كان كل واحد من النصرين في حد ذاته مستبعدًا عند الناس أشد الاستبعاد فكيف الظن بوقوعهما مقترنين في يوم؟ لذلك أكده أعظم التأكيد بقوله: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 6].

ولقد صدق الله وعده، فتمت للروم الغلبة على الفرس، بإجماع المؤرّخين في أقّل من تسع سنين. وكان يوم نصرها هو اليوم الذي وقع فيه النصر للمسلمين على المشركين في غزوة بدر الكبرى، كما رواه الترمذي عن أبي سعيد، ورواه الطبري عن ابن عباس وغيره [جامع الترمذي: (3193)، وصحّحه الألباني في صحيح الترمذي (2551)].


 

[النبأ العظيم نظرات جديدة في القرآن الكريم: 75 - 78]

للدكتور محمد بن عبد الله دراز.