title3

 banner3333

 

5. موقف الرسول (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) من النصّ القرآني

النبأ العظيم (5)

موقف الرسول (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) من النصّ القرآني

موقف الرسول (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) من النصّ القرآني موفق المفسّر الذي يلتمس الدلالات، ويأخذ بأرفق احتمالاتها

وأنت لو نظرت في هذه الذنوب التي رفع العتاب عليها لوجدتها تنحصر في شيء واحد، وهو أنه عليه السلام كان إذا ترجّح بين أمرين ولم يجد فيهما إنما اختار أقربهما إلى رحمة أهله وهداية قومه وتأليف خصمه، وأبعدهما عن الغلظة والجفاء، وعن إثارة الشبه في دين الله، لم يكن بين يديه نص فخالفه كفاحًا، أو جاوزه خطأً ونسيانًا، بل كل ذنبه أنه مجتهدٌ بذل وسعه في النظر، ورأى نفسه مخيرًا فتخير، هبه مجتهدًا أخطأ باختيار خلاف الأفضل. أليس معذورًا ومأجورًا؟ على أن الذي اختاره كان هو خير ما يختاره ذو حكمة بشرية، وإنما نبّهه القرآن إلى ما هو أرجح في ميزان الحكمة الإلهية.

هل ترى في ذلك ذنبًا يستوجب عند العقل هذا التأنيب والتثريب؟ أم هو مقام الربوبية ومقام العبودية، وسنة العروج بالحبيب في معارج التعليم والتأديب؟

توفي عبد الله بن أُبَيّ كبيرُ المنافقين؛ فكفنه النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) في ثوبه، وأراد أن يستغفر له ويصلي عليه، فقال عمر –(رضي الله عنه): أتصلي عليه وقد نهاك ربك؟ فقال (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): "إنما خيرني ربي فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} [التوبة: 80] وسأزيده على السبعين" وصلى عليه [البخاري: 4670، ومسلم 25]، فأنزل الله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] فترك الصلاة عليهم - اقرأ هذه القصة الثابتة برواية الصحيحين وانظر ماذا ترى؟ إنها لتمثّل لك نفس هذا العبد الخاضع وقد اتّخذ من القرآن دستورًا يستملي أحكامه من نصوصه الحرفية، وتمثل لك قلب هذا البشر الرحيم وقد آنس من ظاهر4 النص الأول تخييرًا له بين طريقين، فسرعان ما سلك أقربهما إلى الكرم الرحمة، ولم يلجأ إلى الطريق الآخر إلا بعد ما جاءه النص الصريح بالمنع.

وهكذا كلما درست مواقف الرسول (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) من القرآن في هذه المواطن أو غيرها تجلى لك فيه معنى العبودية الخاضعة ومعنى البشرية الرحيمة الرقيقة؛ وتجلى لك في مقابل ذلك من جانب القرآن، معنى القوة التي لا تتحكم فيها البواعث والأغراض بل تصدع بالبيان فرقانًا بين الحق والباطل، وميزانًا للخبيث والطيب، أحب الناس أم كرهوا، ورضوا أم سخطوا، آمنوا أم كفروا؛ إذ لا تزيدها طاعة الطائعين، ولا تنقصها معصية العاصين. فترى بين المقامين ما بينهما. وشتات ما بين سيد ومسود، وعابد ومعبود.


[النبأ العظيم نظرات جديدة في القرآن الكريم: 55 – 57]

للدكتور محمد بن عبد الله دراز.