title3

 banner3333

 

حانوتي الإيمان (4) أيهما أوّلًا: العلم التجريبي أو الفلسفة؟

أيهما أوّلًا: العلم التجريبي أو الفلسفة؟

    تبدو رؤية كورتز (Kurtz) عند تعريفه للمذهب الطبيعي كفلسفة نتجت عن العلوم الطبيعية، أي: أن العالم درس في البداية الكون ثم صاغ نظرياته، ثم رأى أن الفلسفة الطبيعية أو المادية أمر تفرضه هذه النظريات.

    ولكن كما ذكرنا آنفًا إن الصفحة البيضاء للعقل المنفتح تمامًا والحر من الأسبقيات الفلسفية الذي يقوم بدراسة العالم الطبيعي صورة مضلّلة، بل المحتمل أن العكس تمامًا هو الصحيح؛ يقول جورج كلين (George Klein) - المختص بعلم المناعيات (immunologist) - إن إلحاده لا ينبني على العلم، ولكنه التزام إيماني بمبدأ أولي سابق (a priori)، وذلك عندما كتب معلّقًا على رسالة صديق له ذكر أنه لا أدري: ((أنا لست لاادريًا، أنا ملحد وموقفي لا ينبني على العلم، بل على الاعتقاد ... غياب الخالق وعدم وجود الخالق هو إيماني من طفولتي واعتقادي كبالغ لا يتزحزح قيد أنملة)) [The Atheist  in the Holy City: 203]

    ولنلاحظ شيئًا مشتركًا بين كلين ودوكنز فكلاهما يعتقد بتعارض الإيمان والعلم وهي فكرة سنضع لها استثناء.

   وكذلك في مراجعة كتاب كارل ساغان (Carl Sagan) الأخير يبدي بوضوح شديد ريتشارد ليونتين (Richard Lewontin) - عالم الوراثة في هارفارد - أن اعتقاداته المادية مبدأ أولي سابق، فهو لا يعترف فقط بأن مذهبه المادي لا يشتق من علمه، بل يعترف أيضًا بالعكس بأن ماديته هي ما يحدّد بشكل واع حقيقة ما يعتقده عن ماهية العلم التجريبي:

    ((إرادتنا لقبول الادعاءات العلمية التي هي عكس المقبول بالمنطق العام هي مفتاح لفهم الصراع الحقيقي بين العلم التجريبي وما فوق الطبيعة؛ فنحن نقف بجانب العلم التجريبي رغم الغرابة الشديدة لبعض ما يبنى عليه .. رغم تقبّل المجتمع العلمي لقصص تروى اتّفاقًا ولا يمكن دعمها بالدليل لأننا لنا التزام بمبدأ أولي سابق .. للمذهب المادي.

    ليست الطرق والمؤسسات العلمية هي من تدفعنا لقبول تفسير مادي للعالم الظاهري، بل - على العكس - إننا نؤمن بهذا المبدأ الأولي الذي يعتمد الأسباب الموصلة لوضع نظام يتألّف من تحريات ومجموعة من المفاهيم تنتج التفسيرات المادية بغض النظر عن كونها مخالفة للحدس، وبغض النظر عن عمق الغموض في مخالفة هذه الحدس)) [The Demon Haunted World: Science as a Candle in the Dark].هذه العبارة مذهلة في صدقها وهي على العكس من موقف كورتز.

    يدّعي ليونتين أن هنالك صراعًا ما بين "العلم التجريبي وما فوق الطبيعية"، ثم يناقض نفسه بالاعتراف بأن العلم التجريبي لا يحمل ضمنه أيّ اندفاع لفرض المادية على الناس. وهذا يؤكّد ما ذكرناه من مخالفة الحدس وأن المعركة الحقيقية ليست بين العلم التجريبي والإيمان بالله، بل بالأحرى بين المادية والرؤى الطبيعية للعالم من جهة، وبين رؤية العالم فوق الطبيعة أو الإلهية من جهة أخرى.

على كلٍ، فإنّ التزام ليونتين الإيماني بالمادية اعتراف ذاتي بأن هذا الإيمان ليس متجذّرًا في العلم التجريبي، ولكنّه بني على شيء مختلف تمامًا كما يتضح من كلامه التالي: ((بل إن المذهب المادي مطلق لأننا لن نسمح بأي تدخل إلهي)).

    لا أظن أن دوكنز يملك حماسه السابق نفسه لاستئصال هذا النوع من "الإيمان الأعمى" بالمذهب المادي كما يسعى لاستئصال الإيمان بالله، رغم أن الاتساق المنطقي يوجب فعل ذلك عليه.

    ثم ما هو مقدار السلطة المرجعية في كلمة ((لن نسمح بتدخّل إلهي))، كما يقول ليونتين ((العلم لا يلزمنا أن نكون ماديين))؛ فكلمة ((لن نسمح)) من الواضح أنها لا تشير إلى حجز العلم التجريبي عن الإنسان باتّجاه وجود تدخّل إلهي. إن هذه العبارة تعني ((نحن الماديين لن نسمح بتدخل إلهي)). حسنًا، قد يكون من التكرار القول بأنّ ((أتباع المذهب المادي لا يسمحون بالتدخّل الإلهي؛ فالمذهب المادي يرفض التدخل الإلهي))، بل حتى مجرّد محاولة التفكير به، ومجرّد التدخّل بذاته حسب مذهبهم المادي لا يوجد أي خارج للكون؛ ((فالكون هو كلّ ما يوجد وسيوجد))، ولكن هذا الرفض لا يحمل أيّ التزامات من أيّ نوع عن وجود الله أو التدخّل بعيدًا عن مجرّد التأكيد الذي لا يدعمه الدليل الذي قدّمه ليونتين شخصيًا بأنه لا يعتقد بوجود الله وبتدخّله.

    لو أن عالم فيزياء صمّم بشكل مقصود آلة تستطيع تحرّي الإشعاع في المجال المرئي فقط. ثمّ وبغضّ النظر عن فائدة آلتها، فإنّه من السخف أن يحاول استخدامها لإنكار وجود أشعة إكس مثلًا، التي لن تستطيع تحريها بسبب طبيعة تصميم الآلة.

    ومن غير الصحيح بالطبع إنكار إمكانية ممارسة العلم التجريبي الجيد من قبل علماء ملتزمين بالمذهب المادي أو المذهب الطبيعي، كما أنه ليس صحيحًا إنكار إمكانية ممارسة العلم التجريبي الصحيح من قبل أتباع المذهب الإلهي. ولنركّز في أذهاننا أن العلم التجريبي الممارس بناء على افتراضات مسبقة غير إلهية سيعطي نفس نتائج العلم الممارس بناء على افتراضات مسبقة إلهية.

    فعندما نسعى مثلًا لمعرفة كيفية عمل وظائف كائن حي لا يهمّ كثيرًا أن نفترض أنه مصمّم حقيقة أو أنه يبدو ظاهريًا مصمّمًا، فسواء قام الافتراض وفق منهجية المذهب الطبيعي (أحيانًا تسمى المنهجية الإلحادية) أو وفق المذهب الطبيعي المنهجي (أحيانًا يسمى الإلحاد المنهجي) أو وفق ما يمكن تسميته " المذهب الإلهي المنهجي" ستؤدي إلى النتائج ذاتها أساسًا، وهذا السبب البسيط جدًّا للتعامل مع الكائن الحي الخاضع للدارسة منهجيًا وكأنه قد صمم في كلا التقديرين.

    إن خطر بعض المصطلحات كمصطلح "المنهج البحثي الإلحادي" أو "المنهج البحثي الإلهي" أنها قد تبدو مؤيدة بنحو ما لرؤية العالم الإلحادية، وتعطي الانطباع بأن الإلحاد له تأثير في نجاح العلم التجريبي، وهذا ليس بالضرورة صحيحًا كليًّا، ومع توضيح هذه النقطة تصوّر ما الذي سيحدث إن استخدم بدلًا من مصطلح المنهجية الإلحادية مصطلح المنهجية الإلهية سنرى هجومًا لاذعًا على أساس أن ذلك سيعطي انطباعًا بأن المذهب الإلهي قد ساهم في نجاح العلم.

    رغم ذلك نجد في حالة غير منسجمة نسبيًا علماء بمعتقدات إلهية ولكنّهم يصرون على تعريف العلم التجريبي بمصطلحات المذهب الطبيعي، فمثلًا كتب إيرنان ماك مولين (Ernan McMullin) [– بروفسور الفلسفة الأمريكي -]: ((..المنهج البحثي الطبيعي لا يحدّد دراستنا للطبيعة بل يضع لنا ما هو نوع الدراسات المؤهلة لتكون علمًا تجريبيًا، فلو أراد أحد أن يتّخذ مقاربة أخرى للطبيعية – وهنالك العديد ممن يفعل ذلك – فإن المذهب البحثي الطبيعي لا يملك سببًا للاعتراض. وعلى العلماء أن يتابعوا في هذا الطريق من مذهب البحث في العلم التجريبي وألا يقبلوا الادّعاء بأنّ حدثًا ما أو نوع من الأحداث يُفسّر بوجود تدخّل إلهي مباشر)) [(Defence of Special Creation, Christian Scholar's Review, 1991, (57].

    يوجد فرق مهمّ بين كلام ليونتين وماك مولين؛ فليونتين لن يسمح بوجود تدخّل إلهي وهذه آخر كلمة عنده، أما ماك مولين فيقول قد يكون هنالك تدخّل إلهي، ولكن العلم التجريبي ليس عنده شيء ليقوله بخصوصه؛ فهو يعتقد بوجود مقاربات أخرى للطبيعة ولكنها عنده لا تتأهّل كمقاربات علمية، وبالنهاية قد تعتبر أقل مرجعية. وأود أن أقترح هنا أن كلّا التعبيرين المذهب البحثي الإلحادي والمذهب البحثي الإيماني لا يساعدان: فالأفضل أن نهجرهما معًا.

    ولكن هجر مصطلح غير جيّد أمر يختلف عن مقدرة كلّ عالم أو عالمة على تجنّب حمل التزاماته الفلسفية الخاصة. وهذه الالتزامات الخاصة كما قلنا على الأرجح لن تؤثّر كثيرًا - إن اثرت أصلًا على دراستنا -، كيف تعمل الأشياء، ولكنها قد تؤثر كثيرًا عندما ندرس كيف جاءت الأشياء بداية أو عند دراسة الأشياء التي تؤثّر على فهمنا لأنفسنا ككائنات بشرية.


(God's Undertaker: (35 – 37