title3

 banner3333

 

حانوتي الإيمان (3) مجال العلم التجريبي وحدوده

حانوتي الإيمان (3)

مجال العلم التجريبي وحدوده

     من المؤكّد أن العلم التجريبي أمر عالمي بكل الاعتبارات إذ يعتبر الكثيرون منا - ومنهم مؤلف هذا الكتاب - أن أهمّ ميزة لكون الإنسان عالما هو انتماؤه لمجتمع دولي حقيقي يتجاوز كل أنواع الحدود: العرقية، والإيديولوجية، والدينية، والمعتقد السياسي، والكثير من الأمور التي قد تفرّق الناس، فكلّ هذا الأمور تنسى عندما نحاول جميعنا أن نحل دقائق الرياضيات، أو نفهم ميكانيك الكم، أو نجابه مرضًا خطيرًا، أو نتحرّى خصائص مادة غريبة، أو عندما نضع نظريات عن باطن النجوم، أو نطوّر طرقًا جديدة لإنتاج الطاقة، أو عندما ندرس تعقيد التركيبات في علم البروتينات.

     وبسبب هذا الوضع المثالي بالضبط من الانتماء لمجتمع دولي يملك حرية المضي في عمله العلمي بلا إعاقة من تدّخلات خارجية لها خطر إحداث تفريق للمجتمع العلمي، نفهم لماذا يشعر العلماء بضيق الصدر عندما تطلّ ما وراء المادة برأسها، أو بحالة أسوأ تظهر قضية الإيمان بالله. ومن المؤكّد أن بحثنا عن مجال واحد يمكن، بل ويجب أن يكون حياديًا من الناحية الدينية واللاهوتية سيكون العلم والراجح أنه كذلك؛ فمعظم مسارات العلوم الطبيعية الفسيحة في الواقع، وبالأخصّ: الأجزاء العميقة والبعيدة منه هي كذلك تمامًا، كطبيعة عناصر الجدول الدوري، قيم الثوابت الأساسية للطبيعية، وبنية الحمض النووي الوراثي، وحلقة كريبس في الاستقلاب، وقوانين نيوتن، ومعادلة أينشتاين وغيرها، لا نجد شيء عندها يتعالى مع الالتزامات ما فوق الطبيعة، أليس الأمر على هذا النحو؟

 

تعريف العلم التجريبي

     وهذا الأمر يعيدنا إلى السؤال المطروح: ما هو العلم التجريبي؟ وبخلاف الانطباع السائد لا توجد طريقة علمية متوافق عليها رغم أن بعض العناصر تتلاقى بانتظام في محاولات لوصف ما الذي يشمله النشاط العلمي: الفرض، والتجربة، والبيانات، والدليل، والفرض المعدل، والنظرية، والتوقّع والتفسير وغيرها. ولكنّ التعريف الدقيق غير واضح المعالم، ولأجل تبيين ذلك لنتأمّل في المحاولة التالية لتعريف العلم من مايكل روس (Michael Ruse)، فهو يعتقد أن العلم - حسب تعريفه - "يتعامل فقط مع الأمر الطبيعي والقابل للتكرار وما يحكمه القانون" ((Darwinism Defended: 322.

     على الجانب الإيجابي لهذا التعريف يتاح لنا التمييز بين علم الفلك والتنجيم، ولكن ناحية الضعف الأكثر بروزًا في هذا التعريف - إن اعتمدناه - أنه سيزيل صفة العلمية عن معظم علم الفلك المعاصر. ومن الصعب أن نصنّف النموذج المعياري لنشأة الكون خارج مجموعة الأحداث المتفرّدة؛ فنشأة الكون لا يمكن أن يكرّر حدوثها، وعلماء الفلك قد يغتاظون، وهذا أمر طبيعي، عندما نخبرهم أن أنشطتهم ليست مؤهّلة لاعتبارها علمًا.

     توجد طريقة أخرى للنظر في الأمور التي تعدّ جزءًا أساسيًا من مناهج بحث العلم المعاصر وهي طريقة الاستنتاج للحصول على التفسير الأفضل (أو تسمّى أحيانًا بالقياس الاحتمالي). ولنتأكّد من صحة التفسيرات الموضوعة للأحداث المتكرّرة وأنها أفضل تفسير هنالك ميزة التنبؤ المستقبلي. ولا زال من المفيد أن نسأل عن التفسير الأفضل للأحداث والظواهر غير القابلة للتكرار، ومنطق الأمور يقول إن كان وجود (أ) يجعل وجود (ب) محتملًا فعندما نلاحظ (ب) يكون (أ) مرشّحًا كتفسير ممكن لوجود (ب)، ويبدو أن تعريف روس لا يغطّي هذه الناحية.

     ولكن تعريفه القاصر يخدم غاية هي تذكيرنا بأن العلوم ليست كلها على درجة واحدة من قوة المرجعية، فالنظرية العلمية التي تعتمد على الملاحظة المتكرّرة والتجريب أقرب للاتّصاف بقوّة المرجعية - ويجب أن تكون كذلك - مقابل النظرية التي لا تتمتّع به.

     هنالك دومًا خطر الوقوع بعدم تقدير الفرق في هذه النقطة بحيث نقبل نظرية لا يدعمها التجريب بنفس القدر من المرجعية التي نقبل بها نظرية يدعمها التجريب، وهذا اعتبار سنعود له بالتفصيل لاحقًا.

     ثم تتعقّد الأمور أكثر عندما ندرك الصورة المثالية التي افترضت في عصر التنوير للمراقب العلمي العقلاني النموذجي والمستقل تمامًا والمتحرر من كل النظريات المتبناة سابقًا أو الاعتقادات الفلسفية السابقة أو الالتزام الأخلاقي أو الديني، ثم يقوم بالتحرّيات ويحصل على نتائج لا تدخل فيها العاطفة أو المعايير المزدوجة، وتكون هذه النتائج ممثلة للحقيقة المطلقة؛ هذه النظرة المثالية يعدّها فلاسفة العلم المعاصرون (وكثير من العلماء) أسطورة مغرقة بالسذاجة.

      فللعلماء ككلّ البشر أفكار مسبقة، بل ورؤى للعالم وهي ما يحملونه على كل وضع يتعاملون معه، ويظهر هذا الأمر لنا في عدد من العبارات التي فحصناها قبل قليل، فللملاحظات انحراف يتعذّر تجنّبه باتّجاه أن تكون "محملة بالنظرية"، إذ لا يمكننا أن نقيس درجة حرارة دون امتلاك نظرية عن الحرارة في خلفية عملنا.

     بل اكتشف الفيزيائيون أن عملية الملاحظة نفسها في المستوى الأعمق لسلوك الجسيمات الأولية تكون سببًا في اضطرابات لا يمكن تجاهلها، واستنتج فيرنر هيزنبرغ (Werner Heisenberg) - الحائز على جائزة نوبل - بأن قوانين الطبيعية عندما صيغت رياضيًا في النظرية الكمومية لا تتعامل بهذه الحالة مع الجسيمات الأولية نفسها ولكنها تتعامل مع معرفتنا بها.

     وهنالك جدل شديد معاصر حول الأسس التي بني عليها العلم التجريبي، هل أسس العلم التجريبي على الملاحظة والتنبؤ المستقبلي أم على المشكلة والتفسير، ونسعى عند صياغة النظريات إلى التقليل من تأثير البيانات إذ يمكننا مثلًا رسم عدد لا نهائي من الخطوط البيانية لتمر عبر مجموعة محدودة العدد من النقاط، فالعلم بطبيعته يحمل ما لا يمكن تجنبه من عدم الاكتمال والخضوع للظرفية (Tentativeness & Provisionality).

     ولا بدّ لنا هنا من المبادرة إلى القول بأن العلم التجريبي لا يوصف بأنه نوع من البناء الاجتماعي الذاتي غير منظّم كما يعتقد بعض المفكرين ممن يعتقد بأفكار ما بعد الحداثة (Post-Modernism) ومن العدل أن نقول إن كثيرًا من العلماء - بل لعلّه أغلبهم - يتصفون بالواقعية النقدية (Critical realists)، ويعتقدون بأن العالم موضوعي يمكن دراسته وأن نظرياتهم رغم أنها لا تصل إلى الحقيقة النهائية المطلقة لكنها تقدّم لهم فهمًا للحقيقة يزداد قوة. وهذا نراه واقعًا في مثال تطوّر فهم الكون من غاليلو (Galileo) إلى أينشتاين (Einstein) مرورًا بنيوتن (Newton).

     وبالعودة إلى روس وتعريفه للعلم التجريبي لاستيفاء الكلام حوله، نسأل ما الذي يقصده بقوله: إن العلم يتعامل فقط مع "الطبيعي"؟ لا شكّ أن الكلام يعني بالحدّ الأدنى أن الأمور التي يدرسها العلم التجريبي هي الأشياء الموجودة في الطبيعة، ولكنّه قد يوحي بأن التفسيرات المقدّمة لها لا تعدّ علمية إلا إن صيغت حصريًا بمصطلحات علم الفيزياء، والكيمياء، والعمليات الطبيعية. وهذه رؤية واسعة الانتشار بلا ريب، فمثلًا يقول ماسيمو بيغلوشي (Massimo Pigliucci) - أستاذ علم البيئة والتطوّر - إن "الافتراض الرئيس للعلم التجريبي هو أن العالم قابل للتفسير كليًا بمصطلحات الفيزياء دون اللجوء إلى كيانات تشبه الإله" [Darwinism, Design and Public Education: 195]. على نفس النمط يكتب حامل جائزة نوبل كريستيان دي دوف (Christian De Duve): "يعتمد البحث العلمي على مفهوم أن كل الظواهر الكونية قابلة للتفسير بالمصطلحات الطبيعية دون تدخّل ما فوق الطبيعة. هذا المفهوم ليس موقفًا يعتمد على بديهية فلسفية أو إقرار بمعتقد، بل هي فرضية عملية، ويجب أن نكون مستعدين لتركها إن واجهتنا حقائق تتحدّى محاولات التفسير العقلاني، ولكن الكثير من العلماء لا يتكلفون مشقة إظهار هذا التمييز وينتقلون بسلاسة من الفرضية إلى الجزم والتأكيد وتسعدهم التفسيرات التي يقدمها للعلم التجريبي. فمثل العالم لابلاس (Laplace)، لم تكن لهم حاجة لفرضية الإله، ويكتفون بجعل الموقف العلمي مساويًا للاأدرية إن لم يكن مساويًا للإلحاد الصريح" [Life Evolving: 284].

     وهذا اعتراف صريح من الكثيرين بأن العلم لا يمكن فصله عمليًا عن الالتزام الميتافيزيقي برؤية لاأردية أو إلحادية، ولنلاحظ التمرير الماكر للإلزام بأن "الالتفات إلى ما فوق الطبيعي" يعادل "فشل كل محاولة للتفسير العقلاني". أي بعبارة أخرى أن ما فوق الطبيعي يقتضي اللاعقلانية. والناس منا ممن لديهم اعتقاد ديني جدّي يرون بأن هذا خطئًا بينًا؛ فمفهوم وجود إله خالق مفهوم عقلاني، وليس مفهومًا لاعقلانيًا. ومعادلة التفسير العقلاني مع التفسير الطبيعي بأحسن أحوالها مؤشّر لوجود إجحاف قويّ وفي أسوأ الحالات تدخل في خطأ الفئة.

     ويشارك رؤية دي ديوف كثير من العلماء؛ فعلى سبيل المثال الرؤية التي عبّر عنها القاضي في قضية كيتزميلر وزملاءه مقابل مدرسة مقاطعة دوفر 2005 وتقريره أن "التصميم الحكيم" رؤية دينية وليس رؤية علمية، فقد قال القاضي جوبز وهو محقّ في قوله: "شهادة الخبراء تظهر أن العلم والثورة العلمية في القرنين السادس عشر والسابع عشر أدّت لحصر العلم التجريبي في البحث عن الأسباب الطبيعية لتفسير الظواهر الطبيعية ... في حين أن التفسيرات فوق الطبيعية قد تكون مهمة ولها فائدتها ولكنها ليست جزءًا من العلم التجريبي ... هذا الاتّفاق المفروض ذاتيًا من العلم التجريبي، والذي يقصر بحثه في التفسيرات الطبيعية القابلة للاختبار عن العالم الطبيعي يشير إليه فلاسفة العلم باعتبار "المذهب الطبيعي المنهجي". وتسمّى بالطريقة العلمية ... والمذهب الطبيعي المنهجي هو القاعدة الأساس للعلم التجريبي حاليًا، وهو يطلب من العلماء البحث عن تفسيرات في العالم المحيط بنا، وذلك اعتمادًا على ما يمكننا أن نلاحظه ونختبره ونعيد إنتاجه ونتحقق منه".

     ويعتقد الفيلسوف بول كورتز (Paul Kurtz) شيئًا مشابهًا "ما يشيع في الفلسفة الطبيعية التزامها بالعلم" ويمكن تعريف المذهب الطبيعي بشكل عام بأنه تعميمات فلسفية للطرق والنتائج العلمية" [Philosophical Essays in Pragmatic Naturalism: 12]

     قد يفهم المرء جاذبية هذا الموقف لأنه يميّز لنا بداية بين العلم التجريبي الجيد والخرافة، مثلًا بين علم الفلك والتنجيم، وبين الكيمياء والخيمياء. كما أنه يحدّ من نمط التفكير الكسول "إله الفراغات"، والذي هو التفكير الذي يعزو بعض الظواهر بطريقة "أنا لا أفهمها إذًا الله أو الآلهة فعلتها". ولكن هنالك جانب سلبي واحد على الأقلّ، فالربط الوثيق بين العلم والمذهب الطبيعي قد يؤدّي إلى رفض أيّ بيانات أو ظواهر أو تفسيرات لا تتّسق بسهولة مع أسلوب المذهب الطبيعي بالتفكير. بالطبع سيكون هذا جانبًا سلبيًا إن كان المذهب الطبيعي غير صحيح كفلسفة، لأنه إن كان صحيحًا فبكل بساطة لن يوجد بالنهاية أي مشكلة لا تحلّ بتفسير طبيعي لظاهرة ما ولو استغرق اكتشافه سنين عديدة.


(God's Undertaker: Has Science Buried God: 31 - 35)

لجون لينوكس – بروفسور الرياضيات في جامعة أكسفورد -