title3

 banner3333

 

حانوتي الإيمان (2) الصراع الحقيقي – المذهب الطبيعي والمذهب الإلهي

حانوتي الإيمان (2)

الصراع الحقيقي – المذهب الطبيعي والمذهب الإلهي

     ونصل هنا إلى إحدى النقاط الهامة التي نود تبيينها في الكتاب وهي أن حقيقة وجود الصراع الفعلي وهو ليس صراعًا بين العلم والإيمان أبدًّا، ولو كان كذلك فالمنطق البسيط يقتضي أن يكون العلماء كلهم ملحدين، وغير العلماء فقط هم المؤمنون بالله، ولكن كما شاهدنا ليس هذا واقع الحال، بل إن الصراع الحقيقي يوجد بين رؤيتين متعاكستين تمامًا للعالم؛ المذهب الطبيعي والمذهب الإلهي ولا بد لهما أن يتصادما.

     ولنبيّن ذلك نشير إلى أن المذهب الطبيعي له صلة بالمذهب المادي، ولكنه لا يتطابق معه، ورغم صعوبة التمييز بينهما أحيانًا فيذكر دليل أكسفورد للفلسفة (The Oxford Companion to Philosophy) أن تعقيد مفهوم المادة Matter)) جعل الفلسفات المادية المختلفة تميل إلى استبدال المادة بفكرة مثل: "أي شيء يمكن دراسته بطرق العلم الطبيعي". وهكذا تحوّل المذهب المادي إلى المذهب الطبيعي رغم أنه من المبالغة القول بأن النظرتين اتفقتا بكل بساطة". فالماديون يتّبعون المذهب الطبيعي، ولكن من أتباع المذهب الطبيعي من يعتقد أن العقل والوعي يجب تمييزهما عن المادة، فيعتبرون أن العقل ظاهرة ناشئة، أي: تعتمد على المادة، ولكنها تحدث في مستوى عالٍ لا يمكن أن نختزله إلى المستوى المنخفض من خصائص المادة. وهنالك أيضًا من أتباع المذهب الطبيعي من يعتقد أن الكون يتألّف بشكل خالص من "شيء عقلي" ويشترك المذهب الطبيعي مع المذهب المادي بمعارضة ما فوق الطبيعة (Supernaturalism)، ويؤكدان على أن عالم الطبيعية يشكّل فضاء فردًا، لا إضافة له من خارجه من قبل أرواح أو أنفس إلهية أو بشرية". وبغضّ النظر عن الفرق بينهما يتّصف كلا المذهبين المادي والطبيعي بالإلحاد.

     وللمادية الطبيعية نسخ مختلفة، فعلى سبيل المثال يفرّق ويلسن (E.O. Wilson) بين نوعين، يسمي الأوّل: السلوكية السياسية ((Political Behaviorism : "وهو نوع لازال محبّذًا من الدول الماركسية-اللينينية التي تذوي سريعًا اليوم، ويعتبر هذا النوع من المادية الطبيعية أن الدماغ عمومًا لوح فارغ يخلو من أي كتابة أساسية ما عدا المنعكسات والحاجات الجسدية البدائية؛ فينشأ العقل كلّه تقريبًا نتيجة للتعلّم الذي هو منتج للثقافة التي تطوّرت بذاتها عبر ظروف احتمالية تاريخية. وبسبب غياب الأساس البيولوجي للطبيعة البشرية فيمكن قولبة البشر ضمن أفضل نظام ممكن سياسيًا واقتصاديًا بالأحرى وفق الدعاية المنتشرة بكثافة خلال القرن العشرين قولبتهم إلى الشيوعية. وفي السياسات الواقعية جُرّب هذا الاعتقاد مرّات كثيرة وحدثت انهيارات اقتصادية وموت لعشرات الملايين في حولي عشرة دول فاشلة وظيفيًا مما جعل هذا النمط من المذهب المادي الطبيعي فاشلًا".

     والنوع الثاني وفق رأي ويلسن نفسه يسميه الإنسانية العلمية (Scientific Humanism) وهي رؤية للعالم يعتقد ويلسن أنها "تجفّف مستنقعات حمى التديّن ومستنقعات دوغمائية التحكّم المادي بالدماغ البشري". ويعرف هذا التوجّه بأنه "يعتقد بها أقلية صغيرة من سكان العالم وتعتبر أن الإنسانية نوع بيولوجي تطوّر عبر ملايين السنين في عالم بيولوجي وحصل على ذكاء غير مسبوق، ولكنّه لا زال توجّهه عواطف موروثة معقدة وقنوات مزدوجة الأساس للتعلّم، الطبيعية البشرية موجودة وقد تجمعت ذاتيًا، إن عمومية الاستجابات الوراثية والدوافع الطبيعية هي ما تحدّد نوعنا". ويؤكد ويلسن أن هذه الرؤية للدارونية هي التي "تفرض عبئًا ثقيلًا على الاختيار الفردي المتسق مع الحرية الفكرية".

     ومن خارج اهتمامنا في هذا الكتاب الخوض في التفاصيل الدقيقة لهذه الطروحات أو غيرها من الرؤى، ولكنّنا نودّ التركيز على الأمر المشترك بينها جميعًا وهو ما عبّر عنه بدقة ممتازة الفلكي كارل ساغان في مقدمة برنامجه المشهور بسلسلة "الكون": "الكون كل ما يوجد أو وجد  أو سيوجد" هذه العبارة تعطينا روح المذهب الطبيعي، أما تعريف سترلنغ لامبرشت (Sterling Lamprecht) للمذهب الطبيعي فأطول، ولكنّه يستحق الذكر: "موقف فلسفي وطريقة تجريبية تعتبر كل ما يوجد أو يحدث تحكمه في وجوده أو حدوثه شروط من العوامل السببية ضمن نظام واحد شامل لكل شيء بالطبيعة" [The Metaphysics of Naturalism: 160]. وهكذا فلا توجد إلا الطبيعة، وهي نظام مقفل بين السبب والنتيجة ولا يوجد مجال للمطلق أو غير الطبيعي، لا يوجد شيء اسمه "خارج الطبيعية".

      وعلى العكس تمامًا من المذهب الطبيعي والمذهب المادي هنالك رؤية المذهب الإلهي للكون ... [ويرى أن] الكون ليس نظامًا مغلقًا على ذاته، بل هو مخلوق أو مصنوع بعلم الله وقدرته وقائم بمدده وحفظه، وهذه العبارة تجيب عن السؤال: "لماذا يوجد الكون؟" فالكون موجود، لأن الله كان سببًا في وجوده ...

     فالقضية المحورية كما أكّدنا مرارًا ليست مقدار صلة فرع من العلوم بلاهوت معين، بل علاقة العلم مع رؤى مختلفة للعالم يحملها علماء، وبالأخصّ رؤيتان: هما المذهب الطبيعي والمذهب الإلهي. لذلك عندما يطرح علينا سؤال هل دفن العلم الإيمان بالله يكون كلامنا في مستوى تأويل العلم التجريبي، وما نطلبه في الواقع: أي رؤية للعالم يؤيّدها العلم التجريبي؟ المذهب الطبيعي أم الإلهي.

     لا يشكّ ويلسن في أن الجواب هو الإنسانية العلمية وأنها: "رؤية للعالم تتفرد بالاتساق مع المعرفة المتنامية للعلم في العلم الحقيقي ومع قوانين الطبيعة" أما عالم الكيمياء الكوانتية هنري  [Henry F Schaeffer III] فلا يشك أيضًا بأن جوابه هو الصحيح: "لا بد من وجود خالق، فحلقات الانفجار العظيم (1992) والنتائج العلمية المتتالية تشير بوضوح إلى حالة خلق من العدم". ويجب علينا لحلّ عقدة العلاقة بين رؤى العالم والعلم التجريبي أن نطرح سؤلًا ستفاجئنا صعوبته: ما هو العلم التجريبي بالضبط؟


(God's Undertaker: Has Science Buried God: 28 - 30)

لجون لينوكس – بروفسور الرياضيات في جامعة أكسفورد -