title3

 banner3333

 

7.أسس بُنيت وهُدمت

أسس بُنيت وهُدمت

    إن العائق الأساسي لدمج الحقيقة الدينية والحقيقة العلمية أنّ الأخيرة تتغير باستمرار. شرح توماس كون في كتابه: بنية الثورات العلمية The Structure of Scientific) (Revolutions كيفية تغيّر الحقيقة العلمية. ويبقى السؤال لماذا تتغيّر الحقيقة العلمية؟ ويمكن الإجابة عن ذلك من خلال اختبار الحدود المنطقية للطريقة العلمية المعاصرة.

لِمَ لم يتمكّن العلماء من الوصول إلى الحقيقة المطلقة باستخدام الطريقة العلمية؟ ولِمَ يتوجب علينا أن نتابع تحديث كتبنا في كل المجالات العلمية ابتداءً بعلم الفلك وانتهاءً بعلم الحيوان؟ لِمَ يملك كل علم تاريخًا فيه العديد من الفرضيات والنظريات المتألقة التي توجب إهمالها؟

يكمن الجواب على هذا السؤال في قلب المنهجية العلمية، حيث أدرك الفلاسفة في بدايات النصف الأوّل من القرن الثامن عشر أنّ أسس منطق العلم الحديث كانت خطأ، أي أنّ الطرق التي استُعملت في العلم لم تكن قويّةً كفاية لتصل إلى النهايات التي أرادها العلماء – أي: الحقيقة المطلقة. لم يصل أحد لحلّ هذه المشكلات قطّ، بل عاودت الظهور في القرن الواحد والعشرين مكسوة بحلّة الانتقام.

فرانسيس بيكون Francis Bacon: الطريقة الاستقرائية

لنفهم الحدود المنطقيّة للعلم المعاصر يتوجّب أن نفهم أوّلًا دعائمه. عادةً ما يعود الفضل إلى فرانسيس بيكون في كونه مبتدع الطريقة الاستقرائية في الأبحاث العلمية [A History of Western Philosophy: 541] كان بيكون – مثل كثير من العلماء الآخرين - نصرانيًا، وآمن بأن العلم والسببيّة لهما دور منفصل عن اللاهوتية في تعامل الله مع البشريّة، وهذا ما يُدعى بالاعتقاد بالحقيقة المزدوجة، حيث اعتقد بيكون أن اللاهوتية موجّهة أوّلًا لاستعادة العلاقة الروحانيّة بين البشريّة وإلهها، تلك العلاقة التي فُقِدت عندما عصى آدمُ وحواءُ اللهَ في جنات عدن. ومن جهة أخرى، يستطيع العلم أن يعيد السيطرة المادّيّة للبشريّة على الطّبيعة والتي فُقدت بسبب عصيان آدم وحواء [Novum Organum: 290]. وعبر نشره لكتابين مهمّين: رحلة التعلّم (Adventure of Learning) في العام 1605 و: أداة العلم الجديدة Novum Organum)) في العام 1620- حاول بيكون أن يؤسّس علمًا مبنيًا على قواعد مادّيّة ليتمّ استخدامه في استعادة قوة البشريّة على عالم الطّبيعة. وفي الحقيقة فإنّ الفضل يعود دومًا إليه في كونه مبتدع عبارة: "المعرفة قوة" (Knowledge is power) [A History of Western Philosophy: 545]

كانت أهم مساهمة لفرانسيس بيكون في العلم التجريبي المعاصر إصراره على أنّ الطّريقة الاستقرائيّة (inductive method) - والتي تبدأ من حالات محدّدة وتنتهي بالأحكام الشاملة/العامّة - هي الطّريقة الوحيدة المناسبة للتوصّل إلى البحث العلمي.و كان أرسطو قد هيمن على التّفكير العلمي لقرابة ألفي عام قبل بيكون، فقد أعلن في عمله المشهور الأداة  (The Organon) أنّ الاستنتاج (deduction) (بدءًا من المبادئ العامّة وانتهاءً بالحالات المحدّدة) هو الطّريقة الوحيدة المناسبة للمنطق. حيث يحتاج العالم إلى إيجاد حالات محدّدة في الطّبيعة تؤكّد فرضيّته عن الطّبيعة. وتتم الطّريقة الاستنتاجيّة بالشكل الآتي:

  • الاستنتاج ((Deduction: نبدأ من الفرضيّة دون الحاجة إلى أيّ ملاحظات محدّدة.
  • الفرضيّة (Hypothesis): الكلاب أذكى من القطط.
  • إثبات الفرضيّة
  1. يستطيع كلبي استعادة الكرة بينما لا يستطيع قطّي ذلك.
  2. يستطيع كلبي أن يسحب عربة بينما لا يستطيع قطّي ذلك.
  3. يستطيع كلبي أن يحميني بينما لا يستطيع قطّي ذلك.
  4. تلاحق الكلاب الهررة بينما لاتلاحق الهررة الكلاب.
  • نفي الفرضيّة

قد يكون هناك قدر من الأمثلة التي تنفي الفرضيّة مساو للأمثلة التي تؤكّدها – أو تفوقها عددًا - ولكن باعتبار أنّ الباحث انطلق من فرضيّة مرتكزة غالبًا على رأي شخصي أو تحيز (بدلًا من الملاحظة) فعادةً ما يكون تأكيد الفرضية أسهل من نفيها.

وبسبب انعدام التناسق بين التّأكيد والنّفي فغالبًا ما تخبرنا الطّريقة الاستنتاجيّة كيف يريد العالِم أن يرى العالَم، لا كيف هي ماهية العالَم فعلًا.

وعلى الرغم من عيبها فقد تَبِع العلماءُ والفلاسفةُ في الألفي سنة التالية طريقةَ أرسطو الاستنتاجيّة. وقد حاز فرانسيس بيكون على الشّهرة في القرن السّابع عشر بمعارضته القويّة لطريقة أرسطو الفلسفيّة في المعرفة، وأيّد عوضًا عنها الطريقة التجريبية. ورغم أنّه أظهر الاستنتاج كطريقة فاشلة في المنطق والرياضيات فقد جادل في كتابه: أداة العلم الجديدة، أنّ الطريقة الوحيدة المناسبة لتفكير العالِم هي: الاستقراء ((induction (ابتداءً بالحالات المحدّدة وانتهاءً بالثوابت الشاملة/العامّة) [Isaac Asimov's Biographical Encyclopedia of Science and Technology: 89]:

يوجد - ويمكن أن يوجد - طريقين فقط للتحرّي عن الحقيقة وكشف الغطاء عنها، أحدهما هو الاستنتاج، والذي ينتقل بسرعة من المحسوسات والتفاصيل إلى البديهيات الأكثر عمومًا، ليُشتق ويُكتشف انطلاقًا منها كأسس - ومن كونها حقائق مفترضة غير قابلة للجدل - البديهيات الوسطى. وهذه الطريقة هي المتبعة حاليًّا. أما الطريق الآخر وهو الاستقراء، فيبني بديهياته من المحسوسات والتفاصيل صعودًا متواصلًا ومتدرّجًا حتى يصل في النهاية إلى البديهيات الأكثر عمومًا، والتي هي صحيحة، لكنها غير مجربة. [Novum Organum: 15]

آمن بيكون أنّه إذا أراد العالِم حقًّا أن يفهم الطّبيعة فيتوجّب عليه/ها أن يبدأ بملاحظة الطّبيعة، وعلى أساس هذه الملاحظات (الحالات المحدّدة) يستطيع أن يكوّن فرضيّةً ما (الحكم) في محاولةٍ لتفسير ما لاحظه. يبدأ محقق محترف - على سبيل المثال - تحقيقه في جريمة قتلٍ ما دون أيّ افتراضات (فرضيّات)،إذ يجد المحقق في قضية جريمة قتلٍ معاصرة عدّة دلائل:

(1) تفتقر الزوجة لحجة غياب في ليلة الجريمة.

(2) لا يوجد دليل على فتحٍ النافذة أو الباب بالقوة.

(3) رائحة عطرٍ ما على سلاح الجريمة.

(4) بوليصة تأمين كبيرة وُضعت على حساب الزوج مؤخرًا.

تقترح هذه الأدلّة فرضيّة أنّ الزوجة هي من ارتكب الجريمة.

تُناقِض هذه المنهجية بشدّة طريقة أرسطو الاستنتاجيّة في العلم والتي يبدأ العالم وفقها بسلسلة من الأحكام المسبقة عن كيفية عمل الطّبيعة، ثمّ يحاول أن يعرّف حالات محددة تؤكد هذه المعتقدات [Paradigms Lost: 19] .أما حين يبدأ محقّق هاوٍ تحقيقه في جريمة قتلٍ ما فإنه يضع افتراضاً (فرضية) أنّ كبير الخدم - على سبيل المثال - هو من ارتكبها.

في جريمة قتلٍ معاصرة يكون المحقق قادرًا بسرعة على إيجاد أدلة تبرّر اعتقاده:

(1) يفتقر كبير الخدم لحجة غياب في ليلة الجريمة.

(2) يملك كبير الخدم عيونًا مراوغةً.

(3) يتحدّث كبير الخدم بلكنةٍ أجنبيّةٍ.

(4) لا يحبّ كبير الخدم القطط أو الكلاب أو الأطفال.

تؤكّد هذه الأدلة فرضيّته بأنّ كبير الخدم هو من ارتكب الجريمة.

واعتمادًا على شرح بيكون العلمي للدور الذي يجب أن يلعبه الاستقراء في العلم فقد أُدخِل أخيرًا في عمق التجربة العلمية ويشكل اليوم أساس الطريقة العلمية.

يبدأ عالِم معاصر بحثه عن الحقيقة بعدد من الملاحظات المحددة لظاهرةٍ ما في العالَم المادي، مثلًا: حركة النجوم أو الخواص الكيميائية لأنواع مختلفة من الصخور أو أنماط سلوك الحيوانات، وعلى أساس هذه الملاحظات المحدّدة يبدأ بتكوين فرضية (حكم) لتفسّرها، واعتمادًا على ملاحظته قد يفترض العالِم على سبيل المثال أنّ النجوم في مجرّتنا توجد في مدار حول نواة مجرية مركزية أو أنّ الصخور القاسية تحتوي على الحديد أو أنّ الإوز الكندي يتزاوج مدى الحياة. هذه هي عمليّة الاستقراء – الانتقال المنطقي من حقائق محددة إلى مبادئ عامّة، والانتقال من حوادث فردية إلى أنماط واسعة.

ورغم عدم إعجاب بيكون بالاستنتاج كوسيلة لتوليد فرضيات علمية، فقد احتفظ به كوسيلة لاختبار الفرضية. فحالما تُشكّل فرضية وفق طريقة بيكون العلمية باستخدام الاستقراء فلا بد من اختبارها. يسمح الاستنتاج للعالِم (انطلاقًا من العام وصولاً إلى الخاص) بأن يقوم بتوقعات عن العالَم المادي يجدر بها أن تكون حقيقية إذا كانت الفرضية صحيحة. فإذا كانت -على سبيل المثال - فرضية أن الألوان المشرقة في الصخور الرسوبية ناتجة عن الكميات الزهيدة لأوكسيد الحديد (حكم) صحيحة، فيجب أن تحوي صخرة مشرقة اللون مثل صخرة الرمل الحمراء (حالة محددة) كميات قابلة للقياس من أوكسيد الحديد. ولذلك فإنّ الفرضية تكون قائمةً على عدد منته من الحالات الخاصة، وتفحص الفرضية بتحديد عدد من الحالات الإضافية التي يجب أن يوجد فيها نفس النمط. تتمّ الطريقة العلمية بالشكل الآتي:

  • الاستقراء: نبتدع فرضيةً ما بعد عدد من الملاحظات المحددة:
  1. الصخرة A مشرقة اللون وتحوي على أوكسيد الحديد.
  2. الصخرة B مشرقة اللون وتحوي على أوكسيد الحديد.
  3. الصخرة F مشرقة اللون وتحوي على أوكسيد الحديد.
  4. الصخرة I مشرقة اللون وتحوي على أوكسيد الحديد.
  5. الصخرة K مشرقة اللون وتحوي على أوكسيد الحديد.
  • الفرضية: قد نتوصّل، اعتمادًا على الملاحظات المحدّدة السابقة، إلى نتيجة الاستقراء التالية (حكم عام/شامل): تحتوي جميع الصخور مشرقة اللون على أوكسيد الحديد.
  • الاستنتاج (اختبار الفرضية): إذا كانت "جميع الصخور مشرقة اللون تحتوي على أوكسيد الحديد" فإنّه يجب أن تحتوي الصخور مشرقة اللون التالية (والتي لم تُدرَس سابقاً) أيضاً على أوكسيد الحديد:
  1. الصخرة M مشرقة الألوان: فيجب أن تحتوي على أوكسيد الحديد.
  2. الصخرة O مشرقة الألوان: فيجب أن تحتوي على أوكسيد الحديد.
  3. الصخرة R مشرقة الألوان: فيجب أن تحتوي على أوكسيد الحديد.
  • تأكيد الفرضية: إذا كانت الصخور M وO وR تحتوي فعلًا على أوكسيد الحديد، نكون قد أثبتنا فرضيتنا "جميع الصخور مشرقة اللون تحتوي على أوكسيد الحديد". أو
  • نفي الفرضية: إذا كانت واحدة أو أكثر من الصخور M أوO أوR لا تحتوي على أوكسيد الحديد، نكون قد أبطلنا فرضيتنا "جميع الصخور مشرقة اللون تحتوي على أوكسيد الحديد".

وكلّما زاد عدد مرات اختبار الفرضية وتأكيدها، كلما ازدادت ثقتنا بصحّتها.

لقد كان النهج التجريبي للوصول إلى الحقيقة في السنوات الثلاثمائة والخمسين السابقة سمةً مميزةً للعلم المعاصر، وعلى الرغم من الاستخدم المتزامن للاستقراء والاستنتاج إلا أنّ الاستقراء هو الأهم – جدًّا - بين التقنيتين، حيث يبدأ كل عالِم بحثه عن الحقيقة بطريقة الاستقراء، وهي الخطوة الأولى التي يتوجب على كل عالِم أن يخطوها ليمارس الطريقة العلمية، ولذلك فقد كان فرانسيس بيكون ناجحاً جداً في محاولته ليُنشِئ العلم المعاصر بحزمٍ على أساس الاستقراء.


 

(The Limitations of Scientific Knowledge: 51 - 56)

للدكتور نيجل بروش – عالم الجيولوجيا الأمريكي -.