title3

 banner3333

 

2.تباين الطرق

تباين الطرق

يملك كلٌ من الدين والعلم والفلسفة منهجيته الخاصة الفريدة لإيجاد الحقيقة. ولكل منهج مساحة مصدرية فريدة يتمّ فيها البحث عن الحقيقة. فيبحث الدين عنها في العالم الخارق للطبيعة عبر الوحي، بينما يبحث عنها العلم في عالَم الطبيعة عبر الملاحظات التجريبية، أما الفلسفة فتبحث عنها في عقل الإنسان عبر المنطق.

يوافق معظم ممارسي هذه المجالات على أنّ الحقيقة المطلقة التي يبحثون عنها جميعًا واحدة هي ذاتها؛ فالحقيقة هي الحقيقة أين ومتى وكيفما يجدها الشخص. والاعتقاد المخالف لهذا يعني أن ترفض وجود الحقيقة أصلًا. مقولة أنّ الحقيقة التي تبدو حقيقة فقط لأولئك الذين يتمسّكون بها ليست حقيقة أبدًّا، وإنما مظهر من مظاهر قدرة العقل البشري على خلق وقائع كاذبة، وهي إثبات على ميل العقل البشري إلى خداع نفسه.

فإن كانت هناك حقيقة واحدة مطلقة مؤكّدة، فأي تناقضات أو اختلافات بين ما يدعى حقائق علامة على أنّه لم يتمّ التوصل بعد إلى الحقيقة المطلقة. فعلى سبيل المثال، إن أحبّ عدد من الناس الإبحار إلى البندقية، فقد ينطلقون من محيطات مختلفة وبأنواع مختلفة من القوارب، لكن عندما تصل قواربهم أخيرًا إلى غايتهم، فسيكونون جميعًا في البندقية - وليس في روما أو أثينا، فقد ينطلق الدين والعلم والفلسفة في البحث عن الحقيقة المطلقة بالنظر في مصادر مختلفة وبمنهجيات مختلفة، ولكن إذا توصلوا جميعًا إلى الحقيقة المطلقة ختامًا فستكون الحقيقة نفسها.

ويظهر فشل البشرية في التوصل إلى الحقيقة المطلقة بوضوح لأنّ حقائق الدين والعلم والفلسفة تتعارض غالباً مع بعضها البعض، وبالنسبة للعلم فإنّ الحكمة التقليدية تؤكّد لنا أنّ وجود الجدل فيه طبيعي واقعيًا - بل وحتى مناسب - خلال تفحّص العلماء نظرية تلو الأخرى، رافضين الخاطئة وبانين على الصحيحة. فالعلم عملية للبحث عن الحقيقة وقليلة هي الأشياء المؤكّدة في العلم أكثر من ذلك، ومع استمرار عملية البحث العلمي تراجع النظريات الحالية، وتُنبذ في النهاية لصالح النظريات الجديدة. وتعدّ هذه العملية لبّ الطريقة العلمية.

لا يختلف الفلاسفة واللاهوتيون والعلماء مع بعضهم البعض في الحقيقة المطلقة فحسب بل غالبًا ما يختلفون أيضًا مع زملائهم في مجال الدراسة المختار. ويكشف هذا الخلاف بوضوح فشل المجالات المختلفة في إيجاد الحقيقة. بل على العكس يوحي هذا الاختلاف بأنّ العلم الحديث والفلسفة والدين تتألّف من مزيج من الحقائق وأنصاف الحقائق وأمور أُسيء فهمها وأباطيل مطلقة. ومن المؤكّد أن الانسجام ما بين الحقيقة والخيال مستحيل طبعًا ...

ويعتبر كلاً من العلم والفلسفة والدين ثلاثة مجالات منفصلة تمامًا ضمن الرؤية المعاصرة نسبياً وهذا بطريقة ما اعتباطي ويلزم من حين لآخر فرضه بالقوة، وكما ذكرنا سابقًا، تتقصّى المجالات الثلاثة الحقيقة المطلقة نفسها، وهكذا فلو توصّل العلم يومًا ما إلى الحقيقة المطلقة فلا يمكن أن تختلف عن الحقيقة المطلقة التي توصل إليها الدين أو الفلسفة. لا يمكن لـ "حقيقتين" متعارضتين مع بعضهما أن تكونا جزءًا من الحقيقة المطلقة، فعندها يجب أن تكون إحدى هاتين الحقيقتين - أو ربما كلاهما - خاطئة.

 

هل هناك حقيقة مطلقة؟

يجادل بعض الناس بما أنّ الحقيقة الدينية والحقيقة الفلسفية والحقيقة العلمية تتضارب مع بعضها البعض فإذًا لا يوجد شيء اسمه الحقيقة المطلقة. ويقول هؤلاء إنّ الحقيقة نسبية وغير موضوعية. ولا زال هذا الجدال موجودًا منذ زمن السفسطائيين في اليونان القديمة تقريبًا. وهو عارٍ عن الصحة اليوم كما كان منذ آلاف السنين الماضية. وعلى سبيل المثال، ربما يكون من المستحيل شرح التطوّر التكنولوجي الذي أحدثه العلم خلال القرن الماضي إن لم يكن هناك مسلّمات فيزيائية مثل:

(1) القوانين التي تحكم تدفّق الإلكترونات في التيار الكهربائي، أو:

(2) القوانين التي تحكم انتقال السمات الوراثية من جيل إلى آخر بواسطة DNA.

إذ توجد مسلمات فيزيائية وأخلاقية متعارف عليها عالمياً - مثل الجاذبية و تحريم القتل - ولا نستطيع تحدّي ذلك دون إتلاف أجسادنا المادية أو شخصياتنا الأخلاقية.

ولا يعني عدم بلوغ غاية محدّدة بعد أي شيء بخصوص وجود هذه الغاية فعلًا. وكذلك فإن تناقض عالم واحد مع آخر أو تناقض مجال مع آخر لا يبرهن وجود الحقيقة أو ينفيها. وينطبق ما لاحظه كوبليستون (Copleston) في الدين والفلسفة على العلم أيضًا: "إذا كان من السخف التحدّث كما لو أنّ وجود أديان متعدّدة بطبيعة الحال ينفي ادّعاء دين ما بأنّه الدين الصحيح، فإنّه من السخف التحدّث كما لو أنّ تعاقب الفلاسفة بطبيعة الحال يبيّن أنّه لا يوجد ولا يمكن أن يوجد فيلسوف صحيح" (A History of Philosophy, 1:4).

وبذلك فإنّ الخلاف بين حقائق الدين والعلم والفلسفة لا يُخلّف إلا دليلاً على أنّ هذه المجالات لم تصل بعد إلى وجهتها المختارة ألا وهي الحقيقة المطلقة.

من لديه الحقيقة؟

بالنظر إلى عدم وجود اتّفاق بين الحقائق المكتشفة في الدين والعلم والفلسفة فالمرء يخمن طبيعيًا ليحدّد حقيقة أيّ مجال هي الأقرب إلى الحقيقة المطلقة. يجادل الدين بأنّه قد أعطى الحقيقة المطلقة مسبقًا، بينما يجادل العلم بأنّه يتقدّم بثبات تجاه الحقيقة المطلقة. وقد أُبعدت الفلسفة بشكل كبير في العصر الحديث إلى الهامش بينما بقي العلم والدين يتنافسان على السيادة.

ومع أنّ الفلسفة قد تابعت بحثها عن الحقيقة المطلقة إلا أنّها لم تتوصل قط إلى مجموعة من الحقائق الموافق عليها بالتبادل من قبل معظم الفلاسفة. وبدلًا عن ذلك فقد تجزأت إلى مجموعات من النظريات والمدارس الفكرية المتعارضة. ومع إيمان بعض أتباع هذه النظريات والمدارس المختلفة بأنّهم قد توصّلوا إلى الحقيقة المطلقة، إلا أنّ معظم الناس خارج مجال الفلسفة لم يقتنعوا بهذا، وكذلك أيضًا شأن العديد من العاملين في المجال الفلسفي: "طموح كل فيلسوف هو الوصول إلى تلك الحقيقة التي تسمو فوق كل ما هو مجرّد محلّي ومؤقّت، ولكن حتى كبار الفلاسفة لم يقتربوا من بلوغ هذا الهدف بأي طريقة مستوعبة" (The Oxford History of Western Philosophy: 368).

توافق معظم الديانات على حجة مفادها أنّ الحقيقة المطلقة خارج نطاق الطبيعة والبشرية على حدّ سواء. وتبقى الحقيقة المطلقة في الدين متعلّقة بالخالق أو الخالقين للكيانات، لأنّ معظم الأديان تعتقد بأنّ الإله أو الآلهة قد خلقوا الطبيعة والعقل البشري. ولذلك يجب أن تأتي الحقيقة المطلقة من عالم الغيب (فوق الطبيعي) أي من الإله نفسه أو الآلهة.

ويجادل بعض الناس بأنّ الدين متفرّق كما هو حال الفلسفة. بينما يؤمن اليهود بوجود إله واحد، يؤمن المسيحيون أنّ للإله ثلاثة تجليات وهي الآب والابن وروح القدس، أما المسلمون فيؤمنون بأنّ الله هو الإله وأنّ محمدًا رسول الله، ويؤمن الهندوس بأنّه قد يوجد ما يقارب 330 مليون إله. ومع ذلك وعلى الرغم من الاختلافات الواضحة بين أديان العالَم إلا أنّ هناك أيضًا تشابهات واضحة تقارب الاختلافات. حيث يوجد توافق ملحوظ ما بين أديان العالَم فيما يتعلّق بالمسلمات الأخلاقية. كما أنّ كثيرًا من القوانين الموجودة في الوصايا العشر مُشرَّعة كذلك في أديان العالَم العظيمة. وعلاوة على ذلك تجمع معظم أديان العالَم العظيمة على وجود كيان إلهي (أو كينونات) يدين له الإنسان بوجوده وطاعته.

وعلى عكس الفلسفة والدين، استطاع العلم أن يحافظ على مظهر الوحدة – على الأقل بين مجالاته المختلفة. فغالبًا ما يشير العلماء عمومًا بكبرياء إلى الخطوات العظيمة التي حدثت على مر القرون الماضية في فهمهم للكون المادي ... وعلاوة على ذلك، يتبنى معظم العلماء في كافة المجالات مشتركين اعتقادًا شائعًا في تأثير الطريقة العلمية على دراسة الكون المادي.

ورغم ذلك، تعمل القوى والميول عملها في تهديد وتحطيم مظهر التماسك العلمي. حيث يشكّل الإيقاع السريع للتطور العلمي في القرن الواحد والعشرين، بالنسبة لبعض العلماء، مصدرًا للقلق أكثر منه سببًا للفخر. فالحقيقة المطلقة لا تتغيّر، ولكن الحقيقة العلمية يستمرّ تغيّرها مع كل اكتشاف. وبالنتيجة يبدأ بعض العلماء بالشكّ بالخاصية المطلقة للحقيقة العلمية. وبدأ آخرون بالسؤال عن قدرة الطريقة العلمية على إدراك الحقيقة المطلقة.

تبحث الفصول التالية بعض حدود الحقيقة العلمية التي عرّفها العلماء أنفسهم. وقد يقدّم الفحص الذاتي لانتقاد العلم من قبل العلماء نافذةً فريدةً إلى طريقة عمل العلم.

(The Limitations of Scientific Knowledge: 19 - 23 )

للدكتور نيجل بروش – عالم الجيولوجيا الأمريكي -.