title3

 banner3333

 

تأملات في هداية النمل

تأملات في هداية النمل

     وهذه النمل من أهدى الحيوانات، وهدايتها من أعجب شيء، فإن النملة الصغيرة تخرج من بيتها، وتطلب قوتها، وإن بعدت عليها الطريق، فإذا ظفرت به، حملته وساقته في طرق معوجة بعيدة ذات صعود وهبوط، في غاية من التوعّر حتى تصل إلى بيوتها، فتخزن فيها أقواتها في وقت الإمكان، فإذا خزنتها، عمدت إلى ما ينبت منها، ففلقته فلقتين لئلا ينبت، فإن كان ينبت مع فلقه باثنتين فلقته بأربعة، فإذا أصابه بلل، وخافت عليه العفن والفساد، انتظرت به يوما ذا شمس، فخرجت به، فنشرته على أبواب بيوتها، ثم أعادته إليها، ولا تتغذى منها نملة مما جمعه غيرها ...

     والنمل من أحرص الحيوان، ويضرب بحرصه المثل ... ومن حرصها أنها تكدّ طول الصيف، وتجمع للشتاء علما منها بإعواز الطلب في الشتاء، وتعذّر الكسب فيه، وهي على ضعفها شديدة القوى، فإنها تحمل أضعاف أضعاف وزنها، وتجره إلى بيتها.

     ومن عجيب أمرها أنك إذا أخذت عضو كزبرة يابس، فأدنيته إلى أنفك،لم تشمّ له رائحة، فإذا وضعته على الأرض، أقبلت النملة من مكان بعيد إليه، فإن عجزت عن حمله، ذهبت وأتت معها بصف من النمل، يحتملونه، فكيف وجدت رائحة ذلك من جوف بيتها حتى أقبلت بسرعة إليه؟! فهي تدرك بالشّمّ من البعد ما يدركه غيرها بالبصر أو بالسمع، فتأتي من مكان بعيد إلى موضع أكل فيه الإنسان، وبقي فيه فتات من الخبز أو غيره، فتحمله وتذهب به، وإن كان أكبر منها، فإن عجزت عن حمله، ذهبت إلى جحرها، وجاءت معها بطائفة من أصحابها، فجاءوا كخيط أسود، يتبع بعضهم بعضا حتى يتساعدوا على حمله ونقله، وهي تأتي إلى السنبلة، فتشمها، فإن وجدتها حنطة، قطعتها ومزقتها وحملتها، وإن وجدتها شعيرا فلا، ولها صدق الشم وبعد الهمة وشدة الحرص والجرأة على محاولة نقل ما هو أضعاف أضعاف وزنها.

     وليس للنمل قائد ورئيس يدبرها كما يكون للنحل إلا أنّ لها رائدًا يطلب الرزق، فإذا وقف عليه، أخبر أصحابه، فيخرجن مجتمعات، وكلّ نملة تجتهد في صلاح العامة منها غير مختلسة من الحبّ شيئا لنفسها دون صواحباتها.

     ومن عجيب أمرها أن الرجل إذا أراد أن يحترز من النمل، لا يسقط في عسل أو نحوه، فإنه يحفر حفيرة، ويجعل حولها ماء، أو يتخذ إناء كبيرا، ويملؤه ماء، ثم يضع فيه ذلك الشيء، فيأتي الذي يطيف به، فلا يقدر عليه، فيتسلق في الحائط، ويمشي على السقف إلى أن يحاذي ذلك الشي ء، فتلقي نفسها عليه، وجربنا نحن ذلك، وأحمى صانع مرة طوقا بالنار، ورماه على الأرض ليبرد، واتفق أن اشتمل الطوق على نمل، فتوجه في الجهات ليخرج، فلحقه وهج النار، فلزم المركز ووسط الطوق، وكان ذلك مركزا له، وهو أبعد مكان من المحيط.

 

[شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل: (1/ 188 – 192)]