title3

 banner3333

 

الإرشادات النبوية في التعامل مع سؤال: "إذا كان الله خلق كل شيء، فمن خلق الله؟"

الإرشادات النبوية في التعامل مع سؤال: "إذا كان الله خلق كل شيء، فمن خلق الله؟"

     سؤال: "إذا كان الله خلق كلّ شيء، فمن خلق الله؟" شبهة قديمة ومنتشرة. وتتخّذ هذه الشبهة صورًا مختلفة وتجدّد بطرق متنوّعة، وإن كان أصلها واحد في نهاية الأمر. قد أخبر النبي (صلىّ الله عليه وسلمّ) عن هذه الشبهة إذ قال: (يأتي الشيطان أحدكم فيقول: "من خلق كذا؟ ومن خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربّك؟ ...) [صحيح البخاري (3276)] وصحيح مسلم (362)]. فهذا يدلّ على أن هذه الشبهة كانت موجودة في زمنه، وحيث أنّها من وساوس الشيطان، فلا يستبعد أنها كانت موجودة من أوائل البشر في التاريخ وفي أمم مختلفة.

    ويروّج دعاة الإلحاد المعاصرون هذه الشبهة أيضًا؛ فقد ذكر الفيلسوف برتراند راسل أنّه تأثّر بها عندما كان شابًا، وذكرها زعيم الإلحاد الجديد ريتشارد دوكينز في كتابه: وهم الإله، وجعلها ضمن حجّته المركزية ضدّ الوجود الإلهي. فهي شبهة قديمة ومتجدّدة، ولكنّها في الأصل: وسواس من الشيطان.

     وقد أرشد النبي (صلىّ الله عليه وسلمّ) إلى جملة من الإرشادات في التعامل مع هذه الشبهة. وذلك في أحاديث كثيرة ومتنوّعة؛ منها:

     الحديث الأول: قال النبي (صلىّ الله عليه وسلمّ): (يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته) [صحيح البخاري (3276)] وصحيح مسلم (362)].

     الحديث الثاني: قال النبي (صلىّ الله عليه وسلمّ): (لن يدع الشيطان أن يأتي أحدكم فيقول: من خلق السماوات والأرض؟  فيقول: الله، فيقول: فمن خلقك؟ فيقول: الله، فيقول: من خلق الله؟ فإذا أحسّ أحدكم بذلك فليقل: آمنت بالله وبرسله) [صحيح ابن حبّان (150)، وصحّحه الشيخ شعيب الأرناؤوط].

     الحديث الثالث: قال النبي (صلىّ الله عليه وسلمّ): (يوشك الناس أن يتساءلوا بينهم حتى يقول قائلهم: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ فإذا قالوا ذلك فقولوا: الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، ثمّ ليتفل عن يساره ثلاثًا) [النسائي في السنن الكبرى (10422)، وحسّنه الألباني].

     وتضمّنت هذه الأحاديث النبوية خمسة إرشادات مهمّة في التعامل مع هذه الشبهة، وهي:

     1 – الاستعاذة بالله.

     2 - قول: آمنت بالله ورسله.

     3 – قول: الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد.

     4 – التفل عن اليسار.

     5 – الانتهاء.

     وقد علّق شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) على هذه الأحاديث بكلام مطوّل في كتابه: درء تعارض العقل والنقل (3/ 308 - 319)، وأختصر كلامه هنا في ستّ نقاط:

     النقطة الأولى: نقل شيخ الإسلام الجدل الحاصل بين بعض المتكلّمين في موقفهم من معالجة النبي (صلىّ الله عليه وسلمّ) لهذه الشبهة؛ فقال: ((وقد سئل بعض السالكين طريقة هؤلاء – كالرازي وغيره – فقيل له: لمَ لم يأمر النبي (صلىّ الله عليه وسلمّ) عند هذا الوسواس بالبرهان لفساد التسلسل والدور، بل أمر بالاستعاذة؟ فأجاب: بأنّ هذا مَثل من عرض له كلب ينبح عليه ليؤذيه ويقطع طريقه، فتارة يضرب بعصا، وتارة يطلب من صاحب الكلب أن يزجره. قال: فالبرهان هو الطريق الأوّل، وفيه صعوبة، والاستعاذة بالله هو الثاني، وهو أسهل. واعترض بعضهم على هذا الجواب بأنّ هذا يقتضي أن طريقة البرهان أقوى وأكمل، وليس الأمر كذلك، بل طريقة الاستعاذة أكمل وأقوى، فإنّ دفع الله للوسواس عن القلب)).

     النقطة الثانية: بيّن شيخ الإسلام أنّ هؤلاء أخطأوا في فهم الإرشادات النبوية في هذه الأحاديث، وأنّ النبي (صلىّ الله عليه وسلمّ) لم يأمر بالاستعاذة فحسب، بل أرشد إلى أصول البرهان في هذه القضية؛ فقال: ((السؤال باطل وكلّ من جوابيه مبني على الباطل، فهو باطل، وذلك أن هذا الكلام مبناه على أن هذه الأسئلة الواردة على النفس تندفع بطريقين: أحدهما: البرهان، والآخر: الاستعاذة، وأنّ النبي (صلىّ الله عليه وسلمّ) أمر بالاستعاذة، وأنّ المبيّن لفساد الدور والتسلسل قطعه بطريق البرهان، وأنّ طريقة البرهان تقطع الأسئلة الواردة على النفس بدون ما ذكره النبي (صلىّ الله عليه وسلمّ) وأنّ النبي (صلىّ الله عليه وسلمّ) لم يأمر بطريقة البرهان. وهذا خطأ من وجوه، بل النبي صلى الله عليه وسلم أمر بطريقة البرهان حيث يؤمر بها، ودل على مجاميع البراهين التي يرجع إليها غاية نظر النظار ودل من البراهين على ما هو فوق استنباط النظار، والذي أمر به في دفع هذا الوسواس ليس هو الاستعاذة فقط، بل أمر بالإيمان وأمر بالاستعاذة وأمر بالانتهاء ولا طريق إلى نيل المطلوب من النجاة والسعادة إلا بما أمر به لا طريق غير ذلك)).

     النقطة الثالثة: بيّن شيخ الإسلام أنّ هذه الشبهة مبنية على جحد المقدّمات الضرورية، ومن جحد هذه المقدّمات، فإنّه لا يناظر بالبرهان، لأنّ غاية البرهان أن ينتهي إلى هذه المقدّمات الضرورية، فلا توجد قاعدة مشتركة بين المتناظرين في المناظرة؛ فقال: ((البرهان الذي ينال بالنظر فيه العلم لا بد أن ينتهي إلى مقدمات ضرورية فطرية فإن كلّ علم ليس بضروري لا بد أن ينتهي إلى علم ضروري، إذ المقدمات النظرية لو أثبت بمقدمات نظرية دائمًا لزم الدور القبلي، أو التسلسل في المؤثرات في محل له ابتداء. وكلاهما باطل بالضرورة واتفاق العقلاء من وجوه ... ثم تلك العلوم الضرورية قد يعرض فيها شبهات ووساوس كالشبهات السوفسطائية مثل الشبهات التي يوردونها على العلوم الحسية ولا بديهية ... والشبهات القادحة في تلك العلوم لا يمكن الجواب عنها بالبرهان لأن غاية البرهان أن ينتهي إليها، فإذا وقع الشك فيها انقطع طريق النظر والبحث. ولهذا كان من أنكر العلوم الحسية والضرورية لم يناظر، بل إذا كان جاحدًا معاندًا عوقب حتى يعترف بالحق، وإن كان غالطًا إما لفساد عرض لحسه أو عقله لعجزه عن فهم تلك العلوم، وإما لنحو ذلك، فإنه يعالج بما يوجب حصول شروط العلم له وانتفاء موانعه فإن عجز عن ذلك ... وإذا تبين هذا فالوسوسة والشبهة القادحة في العلوم الضرورية لا تزال بالبرهان، بل متى فكر العبد ونظر ازداد ورودها على قلبه وقد يغلبه الوسواس حتى يعجز عن دفعه عن نفسه كما يعجز عن حل الشبهة السوفسطائية. وهذا يزول بالاستعاذة بالله. فإن الله هو الذي يعيذ العبد ويجيره من الشبهات المضلة والشهوات والمغوية)).

     النقطة الرابعة: بيّن شيخ الإسلام أنّ النبي (صلىّ الله عليه وسلمّ) لم يكتف بالإرشاد إلى الاستعاذة فحسب، بل أرشد إضافة إلى الاستعاذة إلى الانتهاء من التفكير في هذه الشبهات؛ فقال: ((النبي (صلىّ الله عليه وسلمّ) لم يأمر بالاستعاذة وحدها، بل أمر العبد أن ينتهي عن ذلك مع الاستعاذة، إعلامًا منه بأن هذا السؤال هو نهاية الوسواس فيجب الانتهاء عنه. ليس هو من البدايات التي يزيلها ما بعده، فإن النفس تطلب سبب كل حادث وأوّل كل شيء حتى تنتهي إلى الغاية والمنتهى ... فإذا وصل العبد إلى غاية الغايات، ونهاية النهايات، وجب وقوفه، فإذا طلب بعد ذلك شيئًا آخر وجب أن ينتهي، فأمر النبي r العبد أن ينتهي مع استجارته بالله من وسواس التسلسل، كما يؤمر كل من حصل نهاية المطلوب وغاية المارد أن ينتهي إذ كل طالب ومريد فلا بد له من مطلوب ومراد ينتهي إليه، وإنما وجب انتهاؤه لأنه من المعلوم بالعلم الضروري الفطري لكل من سلمت فطرته من بني آدم أنه سؤال فاسد، وأنه يمتنع أن يكون لخالق كل مخلوق خالق، فغنه لو كان له خالق لكان مخلوقًا. ولم يكن خالقاً لكل مخلوق، بل كان يكون من جملة المخلوقات، والمخلوقات، كلها لا بد لها من خالق، وهذا معلوم بالضرورة والفطرة، وإن لم يخطر ببال العبد قطع الدور والتسلسل، فإن وجود المخلوقات كلها بدون خالق معلوم الامتناع بالضرورة)).

     النقطة الخامسة: ذكر شيخ الإسلام أن من الإرشادات النبوية في هذا المقام هو الأمر بقول: آمنت بالله وبرسوله، وأنّ هذا نوع من أنواع المعالجة بدفع هذه الشبهة الشيطانية بالإيمان بالله؛ فقال: ((أن النبي (صلىّ الله عليه وسلمّ) أمر العبد أن يقول آمنت بالله وفي رواية ورسوله فهذا من باب دفع الضد الضار بالضد النافع، فإن قوله: آمنت بالله، يدفع عن قلبه الوسواس الفاسد ... فأمر النبي r العبد أن يقول: آمنت بالله أو آمنت بالله ورسوله فإن هذا القول إيمان وذكر الله يدفع به ما يضاده من الوسوسة القادحة في العلوم الضرورية الفطرية ...)).

     النقطة السادسة: وفي نهاية كلامه بيّن شيخ الإسلام إشكالية الاستدلال على المقدّمات الضرورية الفطرية؛ فقال: ((ومما ينبغي أن يُعرف في هذا المقام – وإن كنّا نبهنا عليه في مواضع – أنّ كثيرًا من العلوم تكون ضرورية فطرية، فإذا طلب المستدلّ أن يستدلّ عليها خفيت ووقع فيها شكّ، إما لما في ذلك من تطويل المقدّمات، وإما لما في ذلك من خفائها، وإما لما في ذلك من كلا الأمرين. والمستدل قد يعجز عن نظم دليل على ذلك، إما لعجزه عن تصوّره، وإما لعجزه عن التعبير عنه، فإنّه ليس كلّ ما تصوّره الإنسان أمكن كل أحد أن يعبّر عنه باللسان، وقد يعجز المستمع عن فهمه ذلك الدليل، وإن أمكن نظم الدليل وفهمه، فقد يحصل العجز عن إزالة الشبهات المعارضة إما عن هذا، وإما عن هذا، إما منهما)).

     وبهذه النقاط الستّ تتبيّن عظمة هذه الإرشادات النبوية في التعامل مع هذه الشبهة كوسوسة. وبهذا الكلام يزول الإشكال بإذن الله تعالى.

     وصلّى الله على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.


     كتبه: جوهانس كلومنك (عبد الله السويدي) – الباحث في يقين لنقد الإلحاد واللادينية -.